استعادةً لمرحلةِ طفولةٍ ولَّت من عُمرٍ قَصِير، حفَّزتني ذاكرة المكان
والزمان اليوم لزيارة هَذا الوادي القصيِّ؛ بحثًا عن نبتةٍ صغيرةٍ، لها ذكرياتٌ
طفوليَّة مُفعَمة بالشقاوة وحبِّ الطبيعة وتراثها الزاخر.
نبتةٌ لَهَا طعمٌ مُختلف، يذُوب في الفمِّ كحبَّات بلوج، مُطعَّمة
بالحموضة والملوحة معا، بدلًا من حلاوة السكر. إنَّها الحميض أو الحميضة، تلك النَّبتة
الصغيرة، ذات الأوراق الجميلة، والزهر المتفتح بلونه البهي.
تَظْهَر الحميضة في مَوْسِم الغيث أو عند هُطول المطر، وما إنْ تجف الأرض
وينقطع المطر، حتى تختبِئ بذُوْرُها وعُروقُها الطَّرية تحت الرِّمال في مسائل
الماء، ورِمَالِها الفضية.
وَمَع ذريذرو الرِّهام، ورَذاذ السَّحاب، ودِيم المطر، تهتزُّ الأرض فرحًا،
فتهتزُّ معها رُوح الحَياة من جديد، وتبزُغ الحميضة خَضْرَاء لتعانق الفضاء.
يتهافَت الأطفالُ والرجالُ والنساءُ لجنيِ الحميض من بُطُون الأودية
ومرتفعات الجبال وقِمَم التلال، لتُضَاف مع الفرفرينة والغنيمو أو الغنيبا، وقبضة
أو هبشة من سحناة قاشع البرية، لتُقدَّم كسَلَطَة شهيَّة مع العيش المشخول النثر،
وخُبز الرخال.
غربتْ شمسُ اليوم، فعُدتُ بخُفيِّ حنين حزينًا؛ لأنَّني لم أجِد الحميض؛ فقد
أتتْ عليها حَيَوانات الفلاة بلا رَحْمَة، ولكن كانتْ فُرصة للتمتُّع برائحة زكيَّة،
لنبتة مُزهرة تُسمَّى مقابلة الشمس، وفي الوقت ذاته طعمة مرارة أوراق المخيسة،
وشجرة الحرمل.
لَقَد حَانَ الوقتُ لوجُود بنك لنباتات وأشجار عُمان، تُخزَّن فيه نَمَاذج
من هذا التراث الطبيعي والثقافي؛ فهو ثروة عظيمة لا تُقدَّر بثمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.