الاثنين، 18 مارس 2019

خَوَاطِر مِنَ الحَيَاة

ارتَبَط الإنسَان القَدِيم ارتبَاطًا وَثِيقًا بالأَمكِنة، كَمَا شكَّلت الكَثِير مِنَ الأشجَار البَريَّة، النَّابِتة فِي تِلكَ الأَمكِنة مَكَانَة سَامِقة فِي نَفسِهِ ورُوحِهِ وذَاكرتِهِ طَوَال مَسَار حَيَاته، مَهمَا تَعَاقَبت الأيَّام، وتَقَادمَت الأزمِنَة، وتقلَّبتْ الظُّروف والأحوَال، خَاصَّة تِلكَ الأشجَار المُعمِّرة ذَات النَّفع المُستَدام، كالغَاف، والسِّدر، والزَّام، والبِيذَام، والشِّريش، واللَّمبا، والسَّمر، والسِّلم... وغَيرِهَا مِن الأشجَار؛ فكَانَ نَفعُها -ولا يَزَال- يعمُّ الإنسَان، والحَيَوان، والطيُّور، والزَّوَاحف، والحَشَرات، وكَائِنَات الأَرض والسَّمَاء جَميعًا. 
وَعِندَما نَستعِيدُ شَريطَ الذَّاكِرة، فمَا مِنّا إلَّا ولَه ذِكرَى جَمِيلَة مَع شَجَرة مِنَ الأَشجَار وَارِفَة الظِّلَال، فتَحَتَ ظِلِّها كُنَّا نرتَع ونلعَب ونَمرَح، ومِن ثِمَارِها كُنَّا نَأكُل ونستَفِيد، ومِن أَخشَابِها وأَورَاقِها مَصدَر عِلَاج، وصِلاء، ودِفء، وبِنَاء، امتدَّ نَفعُها لسَنَوات عَبْر الأزمَان، ومَن لَم يتذكَّر يَسأَل أو يَقرَأ تاريخَ الآبَاء والأجدَاد.
كَانَت تِلك الأشجَار أيضًا مَكَان اجتماعِ وسَكَن وعَمَل، خَاصَّة فِي فَترَة القَيْظ، ومَوَاسِم جَنِي الثِّمار، وتَحْت ظلِّ أغصَانِها المُتفرِّعة الخَضرَاء تُعقَد حَلقَات العِلم ومَدَارس تَحفِيظ القُرآن، وهِي أيضًا مَجَالس صُلح بَيْن الأفرَاد والجَماعَات، وتَحت ظِلِّها تُفصل الشَّكَاوى والخُصومَات، خَاصَّة في القُرى النَّائِية، البَعِيدة عَن مَرَاكِز البلدَان، وتَحتَها أيضًا تصدَح الفنُون ومَجَالس السَّمر والأشعَار، فِي تِلكَ اللَّيالِي الخَوَالي، المُزدَانَة بالأقمَار.
لِهذَا.. كَانَ الإنسانُ العُمانيُّ يهتمُّ كثيرًا بالأشجَار البريَّة؛ فتجدُه يَرعَاها ويحنُّ إلى مَكَانِها، ويَحزَن ويتأسَّف إِذا مَا اقتلعتْهَا الرِّياح العَاصِفة، أو السُّيول الجَارِفة، والتهوُّر فِي قَطعِها بلَا سَبَب يُعدُّ تعديًا وإهَانَة. وقَديمًا، إِذَا مَا غَزَت قَبيلةٌ أخرَى خَشَّت النَّخِيل، وقَطَعتْ الشَّجر؛ لتَكسَر شَوكتَها وتحلُّ بِهَا الهَزيمَة، وكَان ذَلِك فِي النَّفس غُصَّة وحَسْرَة ونَدَامَة.
والمُتأمِّل فِي تَارِيخ عُمان الطَّبيعِي والإنسَاني، يَجِد مِن السُّنن المُتقدِّمة، والأعرَاف الرَّفِيعة، التي تُجل هَذِه الأشجَار البريَّة، وتُعزِّز مَكَانتَها وتُحَافظ عَليهَا، وتُشجِّع على رِعَايتِها، وتهتمُّ بنُموِّها، وهِي أيضًا تُنظِّم عَمليَّة جَني ثِمَارهَا، وكَيفيَّة الاستفادَة مِن أورَاقِها وأعوَادِها، وكَذَلك عِند الرَّغبة فِي قَطعِها أو تَقلِيمِها، لحَاجَة أو ضَرُورة اقتَضتْهَا ظُرُوف طَارِئة، وإذَا مَا ارتحلَ الإنسانُ وَعَاد تَذكَّرَهَا، وتأمَّل ذِكريَاتَه المَكانيَّة والزمانيَّة مَعهَا. 
يُروَى عَن الإمَام أَحمَد بِنْ سَعِيد البُوسعِيدي، وهُو فِي طَريقِه إلى سَمَائل، أنَّه تظلَّل تَحتَ شَجَرة كَبِيرة فِي وَقتٍ شَديدِ الحَرَارة، وبَعد سَنَوات وهُو فِي طَرِيقه إلى نزوى، فِي رَكْبٍ كَبِير مرَّ مِن نَفْس المَكَان، فأخَذ يَجوُل بَحثًا عَن تِلك الشَّجرة؛ فوَجَد أَصلُها قد جَف، فَأمَر أنْ يُفرَش لهُ حِذَاء أَصل تِلكَ الشَّجَرة.
فسَألهُ بَعضُ قُضَاتِه الذِين صَحِبُوه عَن سَبَب ذَلِك؟ فأَخبرَهُم عَن فَضْلِها أيَّام اخضِرَارِها، فَقَال لَه أحَد القُضَاة: أتُكْرِم مَن لَا يَعقِل وَقَد مَات؟ فَقَال له: إنَّمَا الحُرُّ الذِي لا يَنْسَى الإحسَان، فَمَن نَسِي الإحسَان فَلَيْس بحُرٍّ. فيَنبَغِي للحُرِّ ألَّا يَنْسَى إحسَانَ النَّاطِقِ والصَّامِت.. فَقَال له القَاضِي: حَسْبِي، فإنَّه لَحِكمَة لا يَنبَغِي أَن يَنسَاها الحرُّ الأَرِيب.
والإنسَان عِندَمَا يتأمَّل سَنَوات عُمرِه يَتذكَّر الكثيرَ مِنَ الأشجَار، التي كَانَت تَختَزنُ ذَاكِرة الزَّمان والمَكان، فكَم مِن أناسٍ مرُّوا ورَحَلُوا تُذكِّرنا بِهِم تِلكَ الأشجَار الوَارِفة إِذَا مَا مَرَرنا بِهَا وجَلسنَا تَحْت ظِلِّها!! وكَمْ مِن ذِكرَيَات جَمِيلة عَصَفت بِهَا الحَياة، عِندَما نَستظلُّ بظِلَال تِلك الأشجَار تَعُود إلينَا، وتتَسلَّل إلى مَشاعِرنا، وكأنَّها شَريطٌ تَسجيليٌّ تمَّ حِفظُه في أغصَان تِلكَ الأشجَار المُبهِجة!!
وإيمَانًا بأهميَّة ومَكَانَة هَذِه الذَّاكرة الطبيعِيَّة والإنسَانيَّة، حَرصَتُ مِن زَمنٍ طَويلٍ عَلى تَوثِيقِها كِتابَةً وصُورَة، فارتَحلتُ الأمْكِنة والزَّوَايا والجِبَال والأَودِية، وبَذلتُ جَهدًا فِي رِوَايَة تَارِيخِها وذِكرَياتِها وأَدوَارِها، وعِندَما تَتصفَّحُون كِتَاب «قُريَّات.. عَرَاقَة التَّارِيخ ورَوْعَة الطَّبيعَة» فِي طَبعَتِه الثَّالِثة، وكَذَلك عَبْر هَذِه الصَّفحَة المُتَواضِعة، فهُنَاك العَشَرات مِنَ الأشجارِ مُسطَّرة صُوَرُها وتَارِيخُها وذَاكِرتُها فِي هَذا الكِتَاب، والكثيرُ مِنهَا اليَوْم قَد فُقِدت، وَلم تَعُد بَيْن ظهرَانِينَا، ولا تَتذكَّرها الأجيَال، لانقِصَام الأعمَار، وانصِرَام الأزمَان، وكَذَلك لتَغيُّر الظُّروف والأحوَال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.