وُلِدتُ فِي قَريَة زِرَاعيَّة، تَحُفَّها الجَنَائِن البَاسِقَة، وتُزيِّنهَا الأَشْجَار المُتَمايِلَة، والنَّخِيل السَّامِقَة، والنَّبَاتَات المُورِقَة، والخُضْرَة اليَانِعَة مِن كُلِّ جَانِب، تَجِد البُيوتَ فِيْهَا مُتَناثِرة عَلَى مِسَاحتِها الوَاسِعة، عَدَدُ سُكَّانِها لا يَتَجاوَز بِضْع مِئَاتٍ مِنَ الأَنفُس. وعَلَى الرَّغْمِ مِن تَبَاعُد بُيُوتِها لطَبِيعَة أَرْضِها الزِّرَاعِية، إلَّا أنَّ قُلُوبَ سُكَّانِها مُتَقَارِبة، وأَرْوَاحُهم مُتَحَابَّة، ومَشَاعرِهم مُتَآلِفة، كَانُوا مُتَعاونِين فِي السَّراء والضَّراء، وهُم عَلى يَدِ رَجُل وَاحِد فِي المَغنَم والمَغْرَم، يَتجلَّى فِي قُلوبِهم ووجدَانِهم حُبُّ الأَرْض وعِشْق الإِخلَاص لَهَا؛ فتُبَادِلهم هِي أيضًا بالعَطَاء الوَفِير؛ كَانَت حَيَاتُهم تَتَّسم ببَسَاطة العَيْش، وتَكَامُل مُجتَمعِي وتَعَاون إِنسَانِي فِي وَاجِبات الحَيَاة، وتَحْقِيق مُتطلَّباتِها.
فِي مَرْحَلة طُفُولتي الأُولَى، قَرَّر أَبِي أنْ يُعِيد بِنَاء بَيتِنا القَدِيم -فِي تَصْمِيم يَخْتَلف عَمَّا هُو عَليهِ اليَوْم- بَعْدَما تَطوَّرت وَسَائل البِنَاء وِفقًا لمَقَايِيس ذَلِك الزَّمَان، لَمْ تَكُن حِينَها تِلك المُعِدَّات مُتوفِّرة، ولا تِلكَ الشَّاحِنَات التِي نُشَاهدِها الآن مُتيَسِّرة، لنَقل مَا يتطلَّبه البِنَاء مِن مَوَاد، كَانَت وَسَائل النَّقل حِينَها هِي الحَمِير؛ فقرَّر أَبي أنْ يَشتَري لنَا حِمَارا؛ ليتسنَّى لنَا نَقْل مَا يطلُبُه البَنَّاء مِن مَوَاد، إضافَة إلى حَمْل مَا نُنتِجه وتَزدَان بِه مَزَارعنا الخَضْراء: كعُذُوق وجَرب التَّمر، والقتْ، والبَطِّيخ، والخِيَار... وغَيْرها مِنَ الخُضرَاوات والفَواكِه إلى السُّوق.
قِيْلَ لأبِي إنَّ أَجْوَد سُلَالَة للحَمِير -قُوَّة ورَشَاقة- تَجدهَا فِي جحلُوت، وهِي قَريَّة بَعِيدَة، تَبعُد عَن قَريتِنا بأكثَر مِنْ سِتِّين كِيلومِترًا، تتميَّز بالقوَّة عَلَى تحمَّل مَشَاق العَمَل، إِضَافة إلى جَمَال قَوامِها ورَشَاقتِها وحُسن تَربيتِها، فذَهَب أبِي مَشيًا إلى جحلُوت لشِرَاء الحِمَار، فاختَار أتَان أو حِمَارة، لَونُها أَبيَض يقَق نَاصِع البَيَاض، وهِي مِن الأَلوَان المُفضَّلة لأَبِي، أتذكَّر يَومًا عِندَما أَردتُ شِرَاء سَيَّارة، قَال لي: لَا تَشتَري سَيَّارة لَونُها أحمَر ولا أَسوَد ولا أَصْفَر، واختَر مِن بَيْن بَاقِي الأَلوَان.. لَم أسأُله حِينَها عَن السَّبب، وعَملُت بنَصِيحتِه ونَفذَّت أمرَه عَلى الفَوْر.
كَانَت تِلكَ الحمَارَة فِي بِدَايَة عُنفوَان عُمرِها، وتَمتَاز بحُسنِ الجَمَال ورَشاقَة القَوَام، رَفِيعَة وقَويَّة ومُطِيعَة، وكَأنَّها خَيلٌ مُسوَّمة، ابتَاعَها أبِي بَأربَعِين قِرشًا، وهُو مَبْلَغ كَبِير بمِقيَاس ظُرُوف ذَلِك الزَّمَان، وقَد تَوطَّدتْ بَينَنا عَلَاقة إِحْسَان بتِلْكَ الدَّابة، لِمَا تُقدِّمه لَنَا مِن خِدمَة رَفيعَة، فَكُنَّا نَهتمُّ بهَا ونَرعَاها، ونُطعِمها نَفِيعَة التَّمر والأَعْلَاف الطَّازَجَة: كالقَتِّ، والغَشمَر، والبَازرِي، والرَّشيديَّة، واللُّوبيَا والحَشَائش الخَضْراء، كُنَّا نَرفَع عَلى ظَهرِها الجَوَاد اللّيِّن، رَأفةً بِهَا وحتَّى لا يُؤذِي ثِقَل المَتَاع والأَغرَاض ظَهْرَها.
كَانَت دَابَّة ذَكيَّة وعَطُوفة، حتَّى إِذَا مَا اعتادتْ طريقًا تَسلُكه، يُمكِن الوُثُوق بِهَا للوُصُول إلى تِلك الوجْهَة دُوْن مُرَافِق يُوجِّهها، ذَاتَ مَرَّة جَمحَت بِي وسَقطتُ مِن عَلَى ظَهْرِها، فعَادَت تُقبل وتَشمُّ جَسَدي، وكأنَّها تَتأسَّف عَلى مَا بَدَر مِنهَا. كَانتْ جَدَّتي تُذكِّرنا دومًا بجَمَال وقَوَام خُيُول جَد جَدِّي لأبِي وأمِّي (صَاحِب بَيْت الجحِيل)، وآثَار مَرَابِط تِلك الخُيول لا تَزَال شَاهِدة فِي عفَا والكِرِيب، ولكُلِّ زَمَان ظُرُوفه وأَحوالُه، والحَمِير هِي أيضًا إحدَى فَصَائل الخُيُول البريَّة، التي تضمُّ الأَحْصِنة والحَمِير والبِغَال.
كُلِّفت أنَا وأخِي أنْ نَجْلِب الرَّمل والكَنكَري مِن مَكَان بَعِيد، يَقَع فِي عُمق وَادِي مِجلَاص، حتَّى يتمكَّن عُمَّال البِنَاء مِن إِتمَام مُتطلَّبات أَعْمَال البِنَاء فِي البَيْت، كَان عَملًا شَاقًّا ومُرهِقًا بالنِّسبَة لِي لصِغَر سِنِّي، وقَد استمرَّ لأيَّام عَدِيدة، لَكِن تمَّ إنجازُه بحُبٍّ وإتقَان.
كُنَّا نملأ وعَاءً خوصيًّا كَبِيرًا، نَرفعُه عَلى ظَهْر تِلك الحمَارَة -يُسمَّى "الثُوج"- مَع كُلِّ نَقلةٍ مِنَ الرَّمل النَّاعم، أو المَخلُوط بالحَصَى الصَّغير؛ بِمَا يُسمَّى بالكَنكَرِي، نَتَنَاوب أنَا وأخِي فِي الذِّهاب والإِيَاب مَع كُلِّ نقلةٍ مُنذ الصَّباح البَاكِر حتَّى الظّهر.
وَاحدٌ مِنَّا عَليه أنْ يبقَى فِي عُمق ذَلك الوَادي القَصِي، لتَجمِيع الرَّمل فِي أَكدَاس مِن بَيْن شَوَاغي ومُنحدَرَات الوَادِي، وذَلِك بقِطعةٍ حَدِيديَّة تُسمَّى الشَّفطَة، ثُمَّ نَرفَع الرَّمل إلَى الثوج بالقَفِير.
ذَاتَ مَرَّة طَاف بِي -وأنَا مُنهَمِك فِي عَمَلي- رَجلٌ لا أَعْرِفه، كَان يتأبَّط مَجزًّا، فَلمَّا رَأى ذَلِك الطِّفل يَعمَل بِهمَّة ونَشَاط، سَألنِي عَن اسمِي واسمِ أبِي، فأَجبتُه مَع وَجَل وخَوْف مِن شَكلِه وجِسمِه المُمتَلئ، ومِمَّا يَحملُه تَحت إبطِه، فعَرَف حِينَها اسم أبي، فابتَسَم وبَارَك عَمَلي، فتَنفَّستُ الصُّعدَاء حينَها.
كَان عِند ذِهَابِنا وعَوْدَتِنا مِنَ الوَادي إلَى البَيْت لنَقْل الرَّمل، عَلينَا أنْ نمرَّ فِي طَرِيق طَويل، يَقطَع مَقَابر وَاسِعة، كُنتُ أشعرُ بمَشَاعر تَملؤهَا السَّكينةُ والحُزن والخَوْف أيضًا، كُنتُ أسألُ نَفسِي -وأنَا لَم أَتجَاوز حِينَها العَاشِرة مِنَ العُمر- عَن سَبَب اتِّسَاع هَذِه المَقَابر، التِي تَكَاد تُغطِّي ثُلث مِسَاحة قَريتِنا الوَادِعة، ومَا عَلَاقة هَذا الاتِّسَاع بعَدَد السُّكان المَحدُود عَددًا؟!
ذَات يَوْم طَرَحتُ هَذا السُّؤال عَلى أَحَد كِبَار السنِّ؛ فَقَال لي: يَا وَلَدي مرَّت عَلى بِلَادِنا ظُرُوف لَم تَعهدُوها، كَانَت الأمراضُ والأَوبِئة تَفتكُ بالنَّاس فَتكًا، فتَلِك المَقَابر هِي نَتِيجَة لتِلكَ الجَوَائح التِي تمرُّ عَلى البِلَاد، فَلَم تَكُن حِينهَا وَسَائل عِلَاج أو لقَاحَات مُتوفِّرة لمُقاومتِها كَما هِي عَليه اليَوم، إِلَّا علَاجَات واجتِهَادات تَقُوم عَلى التَّجرِبة والخَطَأ، وأَدويَة تُصنَع مِن أَعْشَاب، نَأتِي بِهَا مِن مَوَائِلها الطَّبيعيَّة فِي الجِبَال والأَودِية، إِضَافة إلى طُقُوس وعَادَات تَوَارثَها النَّاس ضِمنَ ثَقَافة مُجتمَعيَّة قَدِيمة؛ مِن أَجْل التغلُّب عَلى مَشَاعر الأَلَم ومَصَاعب الوَجَع.
تِلكَ الأَمرَاض مَرَرتُ بِها وعَانيتُ بَعضَها، ولَهَا مَعِي ذِكريَات مُؤلِمة لا تُنسَى، وهِي أيضًا تسبَّبت فِي وَفَاة أَرْبَعة مِن إخوَتِي، وهُم فِي أَعمَار مُختَلِفة: شَمْسَة وسَعِيد وسَعِيد، والأَكْبَر سِنًّا عَبدالله، الذي سمَّاه أبِي تَيمُّنا باسمِ جَدِّه لأبيهِ عبدالله، كَان أبِي يُحبُّه كَثيرًا، تُوفِّي أخِي عَبدالله وهو فِي عُمر كَبِير، خَرَجت رُوحُه الطَّاهِرة وبِيدِه حبَّة فَاكِهة كَان يَشتَهِيها، تَصفُه أمِّي بالذَّكاء وطَلَاقة اللِّسَان وجَمَال المُحيَّا.
كَان أبِي حِينَها مُسَافرًا إلى العَالي، وقَد يَكُون فِي الدَّمام، لظُرُوف أَجْبَرت الكَثيرَ مِن العُمانيين للهِجرَة إلى هُناك، لطَلَب العِلمِ والرِّزق.
تأثَّر أبِي كثيرًا بفِراقِه وهو فِي الغُربَة، وحَزِن حُزنًا شِديدًا عَلى مَوْت أَخِي عَبدالله؛ مِمَّا تَسبَّب بمَرضِه، فكَانَت كَبدُه تَنزِف دَمًا مِن شِدَّة الحُزن ولَوْعة الفِرَاق، وعِندَما عَلِم عَنه أميرُ البَحرَين -رَحِمه الله- أمرَ بكَرَمٍ مِنه بأنْ يَستَضِيفه عَلى نَفَقتِه للعِلَاج حَتَّى يَشفَى، تَقديرًا مِن سُموِّه لمَكَانة أبِي وظُرُوفه، ظلَّ أبِي عِدَّة أشهُر يُعَاني فِي المُستشفَى حتَّى أنعمَ اللهُ عليهِ بالصِّحة والعَافية، ولَكِن ظلَّ ألمُ حُزن فِرَاق وَلَدِه فِي قَلبِه حتَّى اليَوم.
لَم أَعْهَد أخِي عَبدالله ولم أرَ مَلَامحَه، وكَذَلك هُم إخوَتِي الآخرون، فَقَد تُوفُّوا قَبل مَولِدي، ولَكِن رَأيتُ ولَمَستُ مَشَاعر وحُزْن أبِي وأمِّي عِندَما مَات أخِي الأَكبَر خَلِيفة؛ فكَانَ وَقعُ ألمِ فِرَاقِه شديدًا عَلينَا جَمِيعًا، ففرَاق الأبنَاء هُو رَزءٌ عَظِيم، وأمرٌ جَلَل، وخَطبٌ ثَقِيل على قُلُوب الآبَاء، وهَذَا مَا عِشتُه وشَعُرت بِه بنَفسِي، عِندَما فَقدتُ ابنيْ الصَّغِيرين بَعْد مَولِدهِما، وخُرُوج رَوْحَيهِما بَيْن يَدِي، لأَسبَاب يَصعُب سَردُها هُنا، وهو حزنٌ وألمٌ وانكِسَار فِي القَلب، يَعتَصر قَلبِي وحَشَاشة كَبِدي بصَمْت مِن زَمَن، لا يَشعُر بِه أَحَد غَيرِي مَا حَيِيت.. هَذَا مَا كَان، وأمرُ الله مُطَاع، ولَا رَادَّ لقَضَائه، ولا مُعقِّب لحُكمِه، ولا غَالِب لأَمرِه، فوَّضتُ إليهِ أَمرِي، ولَا حَوْل ولَا قُوَّة إلا باللهِ العَظِيم.
قَبْل سَنَوات وأنَا أبحثُ عَن تَارِيخ الوَلايَة وآثَارِها، مَررتُ بكَثيرٍ مِنَ الأَماكِن التي كَان يُحجَر فِيهَا النَّاس وَقت انتِشَار الأَمرَاض المُعدِية، مِنهَا مَا يَكُون مَوقعُها فِي كُهُوف الجِبَال، أو تَحْت ظِلَال الأَشجَار كالغَاف، ومِنهَا غُرف حَجريَّة تُبنَى عَلى تِلَال صَخريَّة، بَعِيدة عَن الأَماكِن السَّكنية، كَان يُطلق عَلى أُولئِك المُصَابين بـ"المَرْضى"، يُوضَعُون فِي ذَلِك المَكان خَشيَة انتقالِ المَرَض للأَصِّحاء، وتُخصَّص لهم مَوَاعين (أوانِي) لطَعَامِهم وشَرَابهم، يُعَالجون هُنَاك حتَّى يَمُن اللهُ عَلَيهِم بالشِّفاء، أو يتولَّاهم برَحمتِه، وتِلك تِقنيَة مُتقدِّمة فِي زَمَانها، بمَا يُعرَف اليَوم بالحَجْر الصِّحي المُؤسَّسي أو المَنزِلي، وقَد تَطرَّقت إلى تِلكَ الأَمْكِنة وظُرُوف الحَيَاة وعَاداتِها وتَقَالِيدها فِي ذَلِك الزَّمان فِي كُتُب أَصْدَرتُها عَن قُريَّات وتَاريخِها.
ومَعَ انتِشَار جَائِحة فَيرُوس كُورُونا (كُوفِيد 19) فِي هَذِه الأيَّام العَصِيبة، تَعُود بِنَا الذَّاكرة إلَى تِلك الأَحْدَاث والجَوَائح القَدِيمة، التي كَانَت تُسرَد ونَسمعُها كحِكَايَات مُؤلِمة مِن المَاضي، التي كَانَت تُهلِك الأَروَاح، وتَقضِي عَلى الأَنفُس، وتَسرِي فِي الأَجسَاد وتُؤذِيها كسَري النَّار فِي الهَشِيم، عِندَما نَتأمَّل تِلك الأيَّام الصَّعبَة التِي عَاشَها الأَجدَاد والآبَاء، فِي ظلِّ عَدَم توافُر مُستشفيَات ولَا عِلاجَات ولا أدويَة ولا حتَّى مُسكِّنات، ونُقَارنهَا بِمَا نَعِيشُه اليَوم مِن طَفْرَة عَلميَّة مُتقدِّمة، وإِمكانَات مَعِيشية مُتوفِّرة، وظُرُوف بيئيَّة وَاعِية، وثَقَافة مُجتمعيَّة رَاقِية، وعَلَى الرَّغم مِن قَسْوة هَذِه الجَائِحة عَلى الإِنسَان ومَشَاعره النفسيَّة، يظلُّ الإنسانُ يَحْمَد الله عَلَى النِّعم التِي يَعِيشُها، مَهمَا كَانتْ ظُرُوفها ووَسَائلها وإِمكَانَاتها.
الرِّعايَة الصِّحية والخَدَمات الرَّاقية التي تُوفِّرها الدَّولة اليَوم فِي ظلِّ هَذِه الجائِحَة العَالميَّة هِي محلُّ فَخْر وتَقْدِير، الجُهُود التي تَبذُلها مُختَلف قِطَاعَات الدَّولة مِن: عَسكريَّة ومَدنيَّة، وتَضحِيَاتها الجَليلَة، لاحتِواء هَذِه الجَائِحة، وللحدِّ مِن انتِشَارِها هِي محلُّ اعتزازٍ وافتِخَار، الصُّورة الذهنيَّة التي تَرسمُها وَسَائل الإعلَام الوَطنيَّة المُختلِفة، ومُتَابعاتها التَّحليليَّة الدَّقيقة، وبَرَامجها التوعويَّة والتثقيفيَّة المُتَواصِلة والمُتطوِّرة والمُتجدِّدة هي محلُّ احتِرَام، وتَستحقُّ الشكرَ والثَّناء، كَذَلك هِي جُهُود قِطَاعات ومُؤسَّسات المُجتمع المَدَني، وأَعمَال وخَدَمات القِطَاع الخَاص لَهَا مَكَانتها المُحتَرمة والمُقدَّرة في قُلوبنا جَمِيعًا.
ويَكفِينا فَخرًا وعِزًّا ومَجْدًا أنَّ قِيادتنَا الحَكِيمة هِي عَلى رَأس مَن يُتَابع شُؤون أَمرِنا، ويَسْهَر عَلى رَاحتِنا وسَلَامتِنا فِي ظلِّ هَذِه الظُّروف، فعَلَى الرَّغم مِن الظُّروف الاقتِصَاديَّة الصَّعبة، وانقِطَاع التَّواصُل العَالمي، لَم نَشعُر يَومًا بتَقصِير فِي تَوفِير خِدْمَة، أو وُجُود أيِّ نَقْصٍ مِن غِذَاء أو دَوَاء.
الحَمدُ لله.. لَقَد تَضَافَرت الجُهُود المُؤسَّسية والمُجتمعيَّة ضِمْن رُؤيَة مُوحَّدة ووَاقعيَّة، وانتِمَاء وَطَني ثَابِت لا يَتزعزَع، واتَّحدت مَعَها المَشَاعر الصَّادقة، والتَّوجُّهات الإنسانيَّة النَّبيلَة الخَيِّرة، وتَكَامَلت فِيهَا الخطَط والأَدوَار الوَطنيَّة مِن أَجْل صَدِّ هَذا الوَبَاء، ومُجَابَهة تَدَاعياتِه الاقتِصَاديَّة والاجتِمَاعيَّة، وَهَذا لَيْس بغَرِيب عَلى العُمانيِّين مُذ القِدَم.
وَلَكِن: مَاذَا بَعْد هَذِه الغُمَّة والجَائِحة العَالميَّة، وَهِي بإذنِ الله -وثمَّ بجُهُود المُخلِصين فِي هَذَا الوَطَن العَزِيز- إِلَى تَرَاجُع وزَوَال؟ هل سَنعُود إلى مَا كُنَّا عَليه؟!
فَمِن المُؤكَّد أنَّ ذِكرَى هَذِه الجَائِحة وأَحدَاثِها ومَوَاقِفها ستَظلُّ تَرتَسِم وعَالِقَة فِي شَرِيط ذِكرياتِنا لفَتْرة طَوِيلَة مِنَ الزَّمن، هُنَاك مُرَاجعَات مُجتمعيَّة -ستَفْرِضهَا هَذِه الظُّروف- للكَثِير مِن أَنْمَاط الحَيَاة التي كُنَّا نَعِيشهَا، ستَتغيَّر الكَثِير مِنَ القِيَم السلُوكيَّة، هُنَاك ثَقَافة جَدِيدة ستَسُود العَالَم فِي طَرِيقة التَّعَاطِي مَع هَكَذا ظُرُوف فِي المُستَقبل، وحَتمًا سيُعِيد العَالَم النَّظر فِي طَرِيقة تَعَامُله مَعَ الحَيَاة ومُكوِّناتها.
لَقَد حَان الوَقتُ للعَالَم اليَوم أنْ يَلتَفِت إلى تَعزِيز قِيَم الحَضَارة الإيكولوجيَّة، التي هِي مَنبعُ الأَمَان لجَمِيع مُرتَكَزات الحَيَاة، وازدِهَار ورُقِي التَّنمية الإنسَانيَّة المُستَدامة فِي كُلِّ مَكَان، هِي مُستَقبل هَذَا الكَوْن، ومَنبَع الاستِدَامة البِيئيَّة وثَبَاتِها، هِي الضَّمان الحَقِيقي للأَجيَال القَادِمة لتَلبِية حَاجَاتها ومُتطلَّباتها، وَمِن أَجْل أنْ تَعِيش فِي صِحَّة مُستَدامة، وهِي أيضًا سَببٌ فِي أنْ يَعِيش الجَمِيع فِي سَلَام دَائِم ومُستَدام، ويَنشُر بَسَاطَه الأَبْيَض عَلى كَائِنَات الأَرْض والسَّماء أَجْمَع؛ لتَعِيش فِي أَمْنٍ وسَلَام.