الاثنين، 20 أبريل 2020

ذِكرَيَات رَمَضَان

لَا أَتذَكَّر العُمرَ الذِي بَلغْتُه مَعَ أَوَّل صِيَام صُمْتَه، وَلَكِن مِنَ المُؤكَّد كَان فِي سِنِّ طُفُولتِي المُبكِّرَة، تَصَادَف أوَّل صِيَام لِي فِي شَهْر صَيْف شَدِيد الحَرَارَة، كَان مَوْسِمًا للقَيْظ، وهُو مَوْسِم يتَطلَّب مِمَّن فِي عُمرِي أَنْ يَعْمَل لمُسَاعَدَة وَالِديهِ، هَذا مَا اعتَدنَا عَليْهِ مُنذ الطُّفولَة؛ فمَعَ بَوَاكِير الصَّبَاح تَجِدُنا فِي الحُقُول نَزْرَع ونَحْصُد، نُرَقِّط كُلَّ مَا يَتَسَاقَط مِن غَدرِ النَّخلَةِ وأَشْجَار الفَاكِهة، نَذهَب إلى السُّوق نَبِيع ونَشْتَرِي، كَانَتْ تَمرُّ عَلينَا الأيَّام: عَمَل، مَدْرَسَة، ثُمَّ عَمَل فِي المَسَاء أيضًا.
لَمْ نَكُن نَعْرِف طَعْمَ المُكيِّفَات أَو المَرَاوِح؛ لأنَّ الكَهربَاء لَم تَدْخُل بَلدَتنَا بَعد فِي ذَلِك الوَقْت؛ فمَعَ لَهِيب الصَّيْف كُنَّا نَتَبرَّد بظِلَال الشَّجَر، ونُبلِّل أَجْسَادَنا بالمَاء، أَو فِي أَحْوَاض الطُّويَان، أو بالنُّزولِ فِي عُمْقِها للهَرَب مِن قَسْوَة الصَّيْف، وفِي اللَّيْل يَكُون نَومُنَا فِي الهَوَاء الطَّلْق؛ حَيْث الطَّبيعَة تُسْدِل تَجلِّيَاتِها عَلى تِلكَ الأَجْسَاد الكَادِحَة.
اشْتَرَى لَنَا وَالِدي وأَخِي الأَكْبَر ثَلَّاجَة تَعْمَل بـ"الحلِّ التَّراب" أو الكِيرُوسِين، كُنَّا نُوقِد تَحْتَها شُعلَة زَرْقَاء صَافِية؛ فتَمتَدُّ حَرَارة الشُّعلَة فِي أَنَابِيب مُلتَوية عَلَى ظَهْر الثَّلَاجَة كالمَصَارِين؛ فتَتحوَّل هَذِه الحَرَارَة إلى تَبْرِيد فِي بَاطِن تِلكَ الثَّلاجَة، كُنتُ أستَمْتِع بالاهتِمَام بتِلكَ الشُّعلَة الجَمِيلَة، كَان مَنْظَرُها آسرًا يُحرِّك الخَيَال.
كُنَّا نُبرِّد المِيَاه فِي تِلكَ الثَّلَاجَة ونُوزِّعهَا عَلَى الجِيرَان والمَعَارِف، ومَع ظُهُور المَشرُوبَات الغَازيَّة فِي عُمان، كَانَت تِلكَ الثَّلاجَة مَلَاذًا لتَبْرِيد تِلكَ الزُّجَاجَات، ذَات العُنُق الجَذَّاب والغِطَاء المَعْدَنِي المُدوَّر؛ مِنهَا: آر سِي، وكِرَاش، ومِيرندَا، وسِفن آب وتِيم.. وغَيْرها.
كَانَتْ تَمتَازُ هَذِه المَشُروبَات بطَعْمٍ مُختَلِف عَمَّا هِي عَلَيه اليَوْم، ويتمُّ تَنَاولُها عَادَةً بَعْد العِشَاء فِي رَمَضَان وبَعْد الغَدَاء فِي غَيْرِه؛ باعتِقَاد أنَّهَا تُسَاعِد عَلَى هَضْم الطَّعَام، كَان كَثْرة التَّجشُّؤ عَلَامَة عَلى مَفْعُولِها.
كُنَّا نَصْنَع فِي تِلْكَ الثَّلَاجَة أيضًا الآيسكِرِيم، كُنتُ أتَفنَّن فِي صِنَاعتِه فِي قَوَالِب مُربَّعَة؛ مِنهُ مَا يُصْنَع مِن شَرَاب "الفِيمتُو"، وكَذَلك مِن المَشْرُوبَات الغَازِيَّة، فِي غَيْر رَمَضَان كُنتُ أبيعُه فِي السُّوق، وعَلَى طَالِبَات المَدْرَسَة فِي الفَتْرَة المَسَائيَّة بَعْد عَوْدَتِي مِنَ المَدْرَسَة.
ظَلَّت تِلكَ الثَّلاجَة فَتْرَة طَوِيلَة فِي بَيْتِنا، ومَع دُخُول الكَهربَاء إِلى قَرْيتِنَا، تمَّ تَشْغِيلُها بالكَهربَاء؛ لأنَّ تَصْمِيم صِنَاعتها يُتِيح لَهَا ذَلِك، وكَان فِيْهَا خَيْر كَثِير وبَرَكَة وَاسِعَة.
كَانَ يُستَعَد لاستِقبَال شَهْر رَمَضَان بأيَّام مِن مَوْعِد حُلُولِه، خَاصَّة فِيمَا يَتعلَّق بالجَوَانِب الرُّوحِيَّة والحَيَاتيَّة والغِذَائيَّة، وتَبْدَأ عَادَة بيَوْم الدِّرنَة، وهُو تَجمُّع عَائِلي لتَنَاول وَجْبَة الغَدَاء فِي آخِر يَوْم مِن شَعْبَان، وهُنَاك مَقُولَة قَدِيمَة تَقُول: "اليَوْم يَوم الدَّرنَة، وبَاكِر كُلُّ وَاحِد فِي قرنَة".
كَانَت النِّسَاء تَجْتَمِع فِي جوٍّ تَعَاونيٍّ قَلَّ مَثِيلُه اليَوْم، لتَحْضِير وطَحْن البَهَارَات ومَا يَلْزَم مِنْ وَجَبَات تَقْلِيديَّة تُقدَّم فِي رَمَضَان، لتُستَخْدَم طَوَال الشَّهر، وكَان النَّاس فِي رَمَضَان يَتَبادلُون الطَّعَام بحُبٍّ وكَرَم وصَفَاء.
كَانَ يتمُّ مَعْرِفَة بِدَايَة الشَّهر بسَمَاع صَوْت المِدْفَع، أو بطَارِش وبَلَاغ مِنَ الوَالِي، بَعْد وُصُول البَرقيَّة مِن مَسْقَط بأنَّ الهِلَال قَد تمَّت رُؤيتُه، كَان الأَهَالي أيضًا يَجْتَهِدُون لرُؤيَة الهِلَال؛ فيَرْتَقُون الأَمَاكِن المُرْتَفِعَة لتَحرِّي رُؤيَة هِلَال رَمَضَان.
مَعَ أوَّل لَيْلَة لشَهْر رَمَضَان تَبْدَأ صَلَاة التَّرَاوِيح، ومَع نِهَايتِها لَا بُد أنْ تُعْقَد نِيَّة الصِّيَام جَهرًا، يُردِّدها الإِمَام ثُمَّ يُردِّدها خَلْفَه مَنْ حَضَر، كَانَت النِّساء أيضًا يُردِّدن هَذِه النيَّة فِي بُيوتِها عَلَى يَدِ عَارِفٍ بِذلِك، ويُسمَّى ذَلِك "عَقد رَمَضَان"، كَان يُعْتَقَد أنَّ هَذِه النيَّة ضَرُوريَّة لصِحَّة الصِّيَام، وَلَها صِيْغَة مَعْرُوفَة، دوَّنتُهَا فِي الطَّبْعَة الثَّالِثَة مِن كِتَاب "قُريَّات.. عَرَاقَة التَّارِيخِ ورَوْعَة الطَّبِيْعَة"، وتَنَاول ذَلِك الكِتَاب أيضًا الكثيرَ مِنَ العَادَات والتَّقَالِيد فِي حَيَاتِنا العَامَّة.
كَانَ إِفْطَار رَمَضَان بَسِيطًا؛ بَعْضُ الرُّطَب أو التَّمْر مَعَ المَاء وشَرَاب اللَّبَن المَمْخُوض، وكَذَلِك بَعْض السَّمْبُوسَة واللُّقَيمَات، ثُمَّ صَلَاة المَغْرِب، يَلِيهَا تَنَاولُ السَّمَك مَعَ الخُضَار الطَّازَجَة كالفِجْل والمَلفُوف والخِيَار والخَس، ثُمَّ صَلَاة التَّرَاوِيح، يَعْقُبهَا تَنَاول وَجْبَة العَشَاء، تَتَكوَّن عَادَةً مِنَ الفتَّة "الثَّرِيد" أَوْ العِيْش مَعَ مَرَق الدَّجَاج أو اللَّحْم البَلَدِي، أو تَنَاوُل الهَرِيس.
أمَّا أَشْهَر أَطْبَاق الحَلويَّات، فتَأتِي السَّمنَة والكَسْتَر أو المَهلَّبيَّة عَلَى رَأس هَذِه الأَطْبَاق، وتُتَنَاول عَادَةً فِي سَهَرات رَمَضَان.
تَبْدَأ وَجْبَة السَّحُور مَع سَمَاع نَغَمَات طَبْل وصَوْت المِسَحَّر، الَّذِي كَان يَطُوف الطُّرُقَات لإِيقَاظ وتَنْبِيه النَّاس عِنْد مَوْعِد بِدَايَة السَّحُور،
كَان يُردِّد كَلِمَات جَمِيلَة، تَعَارف عَلَيْهَا الجَمِيع مُنذُ القِدَم، وتَتَكوَّن وَجْبَة السَّحُور عَادَة مِنَ العِيْش (الأرز) واللَّبَن.
كَان أَوَّل يَوْم صِيَام لِي شَاقُّا ومُتْعِبًا؛ لأنَّ حَرَارة الصَّيْف كَانَت تُذوِّب الصَّخر، قَاومتُ حِيْنَها ووَقَفتُ صَامِدًا وصَابِرًا لمُجَابَهة ذَلِك النَّصَب، وَلَكِن كَان جَسَدِي النَّحِيل لَم يَحْتَمِل، فَمَع دُخُول المَسَاء وقُبَيْل المَغْرِب كَان جَسَدي مُسجَّى عَلَى حَافَّة بِئْرٍ فِي وَسَط مَنْزِلنا، كَانَت أُمِّي تَمْتَح المَاء مِن قَعْر البِئْر بدَلوٍ مَعْدَنيٍّ فتَصُبُّه عَلَى جَسَدي، لتَبْرِيدِه مِن شِدَّة الحَرِّ.. نِمْتُ حِيْنَهَا وَلَم أَسْتَيقِظ إِلَّا فِي سَاعَاتٍ مُتَأخِّرَة مِنَ اللَّيل؛ استِعْدَادًا ليَوْم جَدِيْد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.