سَأحُدِّثكم أيُّها الأصدقاء الكرام عن قصة واقعية
حدثت في مُجتمعنا مُنذ سنوات طويلة، حدَّثني بها أحد كبار السن، وحدَثت تقريبًا في
الخمسينيات أو الستينيات من القرن الماضي، واقترح أي جِهة مُختصة تحويلها لفيلم
قصير لأهميتها.
والقصة كالتالي: أُصِيب سُكان إحدى القرى بهوس
الهجرة من قريتهم بعدما أصابهم القحط وصعوبة العيش وفقدان الأمل، كان هُناك من بين
سُكان هذه القرية رجلٌ فقيرٌ اسمه "خادم" يعيش مع زوجته عيشة صعبة، كان
بيدارا ويقتات على خدمته والمحسنين.
فِي ذاك الزَّمان الكثير من سُكان القرية قرَّروا
السفر إلى العالي (العالي يعني: إلى الخارج، وفي الغالب إلى دُول الخليج العربي) من
أجل لقمة العيش وبعضهم للتعلم، إلا أنَّ "خادم" هذا من شِدة تعلقه
بالمكان، لم يرض بترك القرية، وعاش مع زوجته حياة فقر وتعب ونصب، ولكنه صبر وعمل
بكد عرقه لتوفير لقمة العيش حاله وأهله، وأهل الخير يساعدونه. وفي أحد الأيام، وصل
جاره من السفر، وعند مروره بمطرح اشترى جونتين عيش (العيش: هو الأرز عند أهل
عُمان)، ووصل القرية عن طريق البحر، وهذا السفري يقدر "خادم"، ويعرف ظرُوفه
المادية، وفي يوم من الأيام ناداه إلى منزله، قال له: تبعني باغينك في سالفة،
وعندما دخل معه البيت، أدخله البخار، وفتح جوينة العيش التي اشتراها من مطرح، وأخذ
السدس وهو مكيال معروف يُصنع من الخشب أو الحديد، وكال الرجل في دشداشة "خادم"
كمية من الأرز؛ حيث ذاك الزمان لا توجد أكياس كما هو عليه اليوم، وقال له هذا الرز
لك ولأسرتك هدية مني.
طار "خادم" فرحا بهذه الهدية؛ فالأرز
يومها من السلع النادرة في ذلك الزمان، والمقتدر والهنقري من يأكل الأرز، وكان الأرز
يُستورد من الهند، وسعره غالٍ جدا، ولا يمكن لأحد أن يشتريه إلا صاحب المال.
المهم، دخل "خادم" على زوجته، وقال هذا
العيش (الأرز) حافظي عليه، وكيلي منه كل يوم كيله واحدة حال عشانا؛ فقديما كانت
الوجبة الرئيسية عندهم هي العشاء. أما الغداء، فيكون خفيفا سمك مقلاي أو مغلاي وسِح
(تمر)، واستمرت تلك الأسرة تقتات من ذلك العيش. وفي يوم من الأيام، عندما قامت
زوجة "خادم" بأخذ كيلة من الأرز أو العيش، وإذا هي تسمع رنة (صنة) قروش
في المكيال، والقروش هي عملة معدنية مصنُوعة من الفضة (تُسمى محليًّا قرش فرنس، وهو
دولار ماري تيريزا من المسكوكات الفضية النمساوية)، كان يُتعامل بها في ذلك الزمان
ولها قيمة كبيرة.
بعدما شاهدت زوجة "خادم" القروش طارت من
الفرحة، وبلغت زوجها بما وجدته في العيش، طلب منها "خادم" السكوت، وأخبرها
أن هذه القروش ليست ملكه، وربطها في وزاره حتى الصباح، وما إن طلع الفجر توجَّه "خادم"
لبيت جاره، واستأذنه بالدُخُول، وما إن جلس بجانبه حتى ناوله القروش، وقال: هذه
القروش تخصك، وجدتها داخل العيش الذي تكرَّمت به علينا، وها أنا أعيد هذه الأمانة
إليك، فأنت أحق بها مني. فرح جار "خادم" أيما فرحة بهذا التصرف لجاره
الأمين، والقناعة التي يعيش بها على الرغم من حاجته للمال، فقال له: لا، فأنت أحق
بهذه النقود نظير تصرفك هذا.
استثَمَر خادم في تلك القروش بطريقة صحيحة، وأصبح
وزوجته في سعادة وهناء وعيش رغيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.