غافة الجنور.. ذاكرة مكان وإنسان؛ كانت تقع في أطراف
قرية "المعلاة"؛ التي اشتهرتْ بزراعة القت والحبوب في ضواحي ترابها
كالتبر؛ فكانتْ سنابل تلك النباتات الخضراء تحنِي رأسها تواضعا مع كل صباح، مُحمَّلة
بالحبوب والبذور في أشكال مزهرة ومفرحة.
ما إن يحين موعد اكتمال نضوجها، يجتمع الرجال
والنساء والأطفال في كل مساء للاحتفال بيوم خراط "حصاد" أزهار وأنوار
القت؛ التي مال لونها الزهري البنفسجي إلى البني اليابس.
تُخرط تلك الأعواد اليابسة الرفيعة؛ الواقفة في
جلبها بشموخ، لتنتهي في كف ناعمة تُداعبها بحنية، مُنتزعة تلك السنابل؛ المحملة
بقوت الحياة، فتنتزع تلك الأزهار من أطراف أعوادها، بعد أن أنحنت في تلك الكفوف،
متباينة الليونة والصلابة.
تَبْقَى تلك الأعواد واقفة لتقابل الحياة بشموخ،
فيكون مصيرها "سوارة" يتمُّ جزها بمجز مسنن، لتقدَّم وجبة شهية للثيران
والماشية، أو تروى، ليخضر العود اليابس من جديد.
تُخزن تلك السنابل في جواني في شمس حارقة، وما إن
يدخل موسم الصيف، حتى تبدأ غافة الجنور في استقبال الرجال والنساء والأطفال
للاحتفال بيوم "دواس البذر"؛ فتُنْشَح تلك السنابل على أرض صلبة؛ تُسمى
الجنور، في موقع واسع مفتوح، يطلق عليه راحضي قُريات.
تُترك تلك السنابل في أشعة الشمس، ثم تَنهال عليها
العصي والمقاشيع، لفصل البذور عن تلك الزهيرات والأوراق اليابسة.
تَستقبل تلك الغافة المتعبين من صهدة شمس الجنور
وحرقها، لتنثر عليهم أغصانها الخضراء نسمة باردة تعيد إليهم النشاط، ثم يقتاتون
تحت ظلها فردات من التمر ورشفات من الماء واللبن، في جو اجتماعي مفعم بالحب
والتعاوُن، ليعودوا بعدها إلى الجنور للعمل بقوة جديدة.
تُعَاد عملية الدواس مرات ومرات تحت أشعة الشمس
الذهبية، حتى يضمن فرز كل الحبوب.
تُنثر تلك الحبوب بطريقة فنية في الهواء؛ وذلك بمنسف
خوصي؛ لضمان تنقيتها من الشوائب، ثم تجمع في جونية، ليتم بيعها بالمن أو تترك
لبداية موسم زراعة قت الحولي والصوري، لتعود إليها الحياة من جديد.
لم تعُد غافة الجنور يتذكرها هذا الجيل، بعد أن
تغيرت معالم مكانها، وإحلال المكينة مكان مُهمة الدواس، لكنها تبقى ذاكرة لذلك
الجيل؛ الذي أتخذ من العمل الزراعي قيمةً وهواية ومتعة وابتكارًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.