من ذكريات فترة الإقامة في مصر من أجل الدراسة
لمرحلة الماجستير؛ وذلك قبل أكثر من أحد عشر عاما، هي تلك الحميمية التي كانت
تجمعنا بالأصدقاء زملاء الدراسة، من كل شتى بقاع العالم العربي.
تميَّز العُمانيون بالجدية في تأدية الواجب؛ لهذا كان
من بين دفعتي شباب مخلصون للعلم، حتى إنني لم أجد أحدًا منهم تأخر يوما عن مُحاضرة،
وكانوا أكثر التزاما بنظام الكلية من غيرهم، لهذا توج عدد منهم بالمراكز الأولى
على تلك الدفعة.
مِن حرصهم على عودتهم إلى أرض الوطن فور انتهاء
مُتطلبات تخرجهم، لم يتأخر واحد منهم من أجل حضور حفل التخرج؛ لأنَّ ذلك يتطلب
منهم قضاء أيام في مصر حتى يحين موعد ذلك الحفل، حتى لباس التخرج تم إرساله إلينا
عن طريق زميل لنا من مصر، وحتى اليوم لا يزال في غلافه لم أفتحه، فقد كان كل منا
حريصا على العودة بسرعة إلى عمله وخدمة وطنه.
يقُول صديقنا المصري إنَّه في خلال الحفل -والذي
كان تحت رعاية شخصية مرموقة من مصر- تمَّ مناداة الأوائل، وكلهم من عُمان، ولم
يخرج أحد من الحاضرين؛ الأمر الذي جعله يستلم دروع التقدير عنهم.
من الطرائف الجميلة في فترة مثل هذا الشتاء
البارد، كُنا في إجازة قصيرة قضيناها هنا في عُمان، وبعد عودتنا إلى مصر، وكان ذلك
في شهر يناير، تصادَف سفرنا مع أحد الأصدقاء المخلصين من عُمان، كان معه أسرته وأطفاله
الصغار.
بعد وُصُولنا مطار القاهرة، حرصت على أن تكُون
عودتنا إلى الإسكندرية -حيث أقيم- بالقطار؛ لأنه أكثر أمانًا وسرعة من وجهة نظري،
وهذا ما كُنت متعوِّدا عليه باستمرار، وما يُميز مصر أن فيها العديد من الخيارات
في مجال النقل الداخلي.
صَديقنا الحبيب اقترح أن نستأجر سيارة من إحدى
الشركات السياحية في المطار، وهي نعتبرها تجربة جديدة، واحترامًا له وتقديرا
للزمالة التي قضيناها لسنوات، استجبتُ لمُقترحِه لنخوض هذه التجربة، وكان حينها
فصل الشتاء في أشده، والبرد يكسر العظام.
استأجرنا السيارة التي يَصِفها صاحبها بالليموزين،
وموديلها جديد، وكل شيء على التمام، قلنا: يا عم، توكلنا على الله، طالما كل شيء
على التمام.
خَرجنا من المطار، وركبنا السيارة، فإذا هي سيارة
عبارة عن "باص" ركَّاب صغيرة، جينا على التكييف فهو لا يعمل، "فين
التكييف يا عم". قال لنا السائق: الهواء بره طرَاوة، قلنا: "تمام، هيا
انطلق بنا حتى لا يحل علينا الظلام في الطريق". قال: "سأسلك بكم الطريق
الصحراوي؛ لأنه سالك بدلًا من الطريق الزراعي". قلنا: "توكل على الله".
شغَّل السيارة، وسلكنا طرقات القاهرة الجميلة، وخرجنا من القاهرة في اتجاه
الإسكندرية.
وما إن وصلنا إلى مُنتصف الطريق بين القاهرة
والإسكندرية، وفي صحراء جَرْداء، وإذا بالليموزين تتأتأ، قلنا: "فيه إيه يا
عمنا"، قال: متقلقوش، أنا بتولى الأمر ده. تحركت السيارة ولكن ببطء، وبعد
مسافة قصيرة وقفت. "ما الأمر يا عمنا صاحب الليموزين". رد علينا: قلت
لكم متقلقوش، أنا بشوف إيه الموضوع. نزل تحت السيارة، وصال وجال، ونحن ننتظر داخل
السيارة، طال الوقت ودخل المساء، "فيه إيه يا عمنا تأخرنا".
وإذَا بصاحب الليموزين ينقل لنا الخبر المُحزِن
والمُقلق، بأنَّ الليموزين أصابها بعض الحسد، واحترق الكلاتش، "وبعدين يا
عمنا". يرد: متقلقوش، أنا باتصرف. "تصرف ياعمنا، عندنا أطفال في السيارة،
والبرد يكسر عظمنا". يرد علينا: على عيني، متقلقوش، أنا باتصرف.
"تجمل يا عمنا، تصرف، اتصل بالمكتب السياحي
خليهم يرسلوا لنا سيارة بديلة". يرد: متقلقوش، أنا باتصرف. اتصل الرجل، "فيه
إيه يا عمنا، ردوا عليك بإيه". قال: مفيش فايده، دلوقتي أدوني الأجرة وأنا
بتصرف، أستأجر لكم سيارة تانية.
قلنا: "من فين تستأجر لنا سيارة تانية ونحن
في حتة مقطوعة". خرج صاحب الليموزين، وحاول وحاول أن يُؤشر على سيارة عابرة
من أجل ينقذ الموقف. ونحن داخل السيارة، دخل علينا بقَوْلِه: مفيش فايدة، مفيش حد
راضي يوقف ليكم، ادوني الفلوس أشوف حل تاني.
وما إن سمعت كلمة "إدوني الفلوس"، حتى توليت
الأمر بنفسي بردِّي عليه: "اسمع يا عمنا صاحب الليموزين إنت، أكثر من مرة
تسمعنا إدوني الفلوس، محسبتش الأطفال، وهذا المكان الموحش، وقساوة البرد".
خَرَجت من الباص، وكنت حينها مُرتديا اللباس
العُماني، أشرتُ إلى أول سيارة، وإذا بصاحبها يقف بجانبنا. وهي سيارة عبارة عن
شاحنة مملوءة بصناديق الطماطم، ويقُودها رجل من الصَّعايدة. شرحنا له المشكلة، ردَّ
علينا: أنتم من عُمان الغالية، أولاد قابُوس، حبيب العرب، على العين والرأس.
ما قصَّر الرجل، سحب اللموزين بشاحنته المُباركة
حتى أقرب محطة وقود، حاولنا نعطيه شيئًا لم يَرضَ أبدا. بعدها بحثنا عن سيارة، لم
نجد؛ لأنَّ جميع سيارات الأجرة تخرج من المُحافظات مشحونة بالركاب. المهم اتصلنا
بأحد الأصدقاء المصريين، وهو زميل دراسة أيضا، وإذا هو يصل إلينا بسيارته الخاصة
لينقذنا من الموقف العصيب، سلَّمنا صاحب الليموزين أجرته، وهو مُستغرب من هذا
الموقف، وودَّعناه بحفاوة وحب.
وَصَلنا الإسكندرية نصف الليل، ونحن نرتجف من شدة
البرد، وصديقي صاحب فكرة استئجار الليموزين ضربته حُمَّى نفَّاضية ساخنة وباردة
لمدة أسبوع، وأنا أخذتْ مني المُعاناة مَبْلَغها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.