الجمعة، 4 أغسطس 2017

أبراج بلل

الكثيرُ مِنَّا زار، أو قرأ، أو سمع عن أبراج كبيكب المبهرة في قمم جبال بني جابر في ولاية صور. وكذلك عن مقابر بات الأثرية في ولاية عبري، ذائعة الصيت، والمدرجة ضمن قائمة التراث العالمي من قبل المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) مُنذ العام 1988م.
مِثْل هذه التقنية والأبراج الصخرية تجدُها مُنتشرة في مواقع مُختلفة على مساحة واسعة بقرى وادي السرين ومجلاص بولاية قُريات، القريبة من مدينة مسقط العامرة؛ من بينها: مجمُوعة من الأبراج الصخرية، بُنيت مُنذ قديم الزمان بطريقة هندسية وفنية متقنة، على قمة جبل ممتد، تشرف وتطل على واد عميق، مزدان بأشجار السمر، ويزيد عددها لأكثر من خمسة أبراج، وهي على مسافات متقاربة، تأخذ شكل الهرم أو خلايا النحل، تقع بالقرب من بلل، وما أدراك ما بلل! بلدة زراعية وروضة خضراء، قابعة في زاوية بين الجبل والوادي، بالقرب من السواقم، وعلى الطريق المؤدي إلى عرقي وصياء.
تَمتَاز تلك الروضة الصغيرة، المنزوية بين الجبال، بالسكينة والهدوء، لا تسمع فيها إلا حفيف أغصان أشجار الغاف والسدر المعمرة، وزقزقة العصافير بألوانها البهية، وتغريدات الصفاردة والطيور الجميلة، وثغاء الشياه الباسمة، فيما تلتقيك بحب وحنية نسمات هوائها السجسج، الذي ينعش الفؤاد والخاطر، ويريح الفكر، كمغنطيس يمتص الألم ويجدد النشاط.
كَانت يومًا حدائق غناء، فتربتها كالزعفران، ذهبية غنية وخصبة، ترويها ساقية فلج قديم، وقد غيرتها الأحوال عبر الزمن، فاختفت الكثير من معالمها ونشاطها الزراعي المعهود، وضعف فلجها، فكملت الآبار القديمة مشواره، فيما المياه اليوم تتفتق ينابيع من أعماق بسيطة جدا في جداول حصوية ورملية بيضاء، تعزِف سيمفونية الحياة في بطن الوادي، تبحث عمَّن يهتم بها، ويعيدها إلى ساقيتها؛ فهي تحن إلى مجراها الطبيعي القديم، لتروي النخل والشجر والزهر.
بلل.. لها تاريخ موغل في القدم، وهي اليوم حديقة طبيعية تكسوها الأشجار الخضراء المعمرة، لها شهرة بموقعتها الحجرية الضخمة، المكتسية بلون التاريخ ولمسات يد الإنسان، التي لا تزال موجودة على حواف الوادي، شاهدة على أيام محفوفة بالفرح والجمال، وتحكي ذكريات طواها النسيان. وبلل تستحقُّ أن تكُون محمية ومتنزها طبيعيا، تهفو إليها النفوس المتعبة، للتأمل بجمال الطبيعة والجُغرافيا.
وتِلك الأبراج الصخرية المطلة على بلل في تقديري يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد أو الإسلام بكثير، وقد تعدَّدت الأقوال حول استخدامها والأغراض التي تخدمها؛ فمنهم من يُسمِّيها: قبور جهال، يحجر فيها المرضى المزمنون والمُتقدمون في العمر، الميؤوس من حياتهم؛ حيث يُروى أن الإنسان القديم تطول به الحياة، فيعمر كثيرا، فمتى ما وصل سن الهِرَم، بُنيت له تلك الأبراج الصخرية كمسكن دائم له، ثم يحمل إليها مع طعامه وشرابه، ليعيش هُناك وحيدا في تأمل حتى يفارق الحياة، ومتى ما مات دُفِن في باطنها.
وهُناك من يُسمِّي هذه الأبراج الصخرية بالسيبة، وهي عبارة عن غرف صخرية تستخدم للتحصن والمراقبة في فترة الحرب والنزاعات القبلية، وللمخيلة الشعبية حكايات عديدة، نسجتها حول هذا الموقع وتلك الأبراج المدهشة، تحتاج إلى تأمل.
لم يستخدم في بناء تلك الأبراج الطين أو الصاروج، وإنما بنيت بالصخور فقط، فتجِد كل صخرة تمسك وتحمل الأخرى بوفاء؛ وصفت بطريقة فنية بديعة ورائعة التصميم والجمال، ولتلك الصخور مقاسات وملمس محدد لكل برج، وهي مُختلفة الألوان من برج لآخر، وفيما أعتقد أن الكثير من هذه الصخور من حجر الصوان، الناعمة والمريحة الألوان، كالأسود والرمادي والبني والأبيض، تم تشذيبها بعناية فائقة وبأدوات تقليدية مُنذ آلاف السنين، يجعلك تتفكر في قيمتها الثقافية والتاريخية.
ومِن خاصية هذه الصخور أنَّها قابلة على إحداث صوت موسيقي عذب إذا ما وطأت عليها بقدمك، أو عزفت عليها بحجر صغير، والدراسات تثبت أن الإنسان القديم في العصر الحجري قد استعان بهذه الحجارة (الصوان) في صناعات عديدة لاستخدامها في حياته اليومية؛ بما فيها وسائل الترفيه والتسلية.
وليس من المُستبعد أن اختيار واستخدام الإنسان القديم لهذه الحجارة في بناء تلك الخلايا الحجرية كمقابر أو محجر صحي أو للدفاع، هي دلالة على رُقي ذلك الإنسان مُنذ قدم التاريخ بمشاعر الإنسان الشخصية، واهتمامه باحتياجاته الروحية والنفسية حيًّا أو ميتًا.
الكَثِير من هذه الأبراج حجارتها متساقطة، وتم نقل بعضها للأسف الشديد لاستخدامات البناء، إلا أنَّ معالمها باقية بارتفاعات مُختلفة، ويقدر ارتفاعها قبل تهدمها ما بين 3 و4 أمتار، وهي على شكل دائري يُقدَّر قطرها ما بين 3 و4 أمتار أيضا، وتمَّ تأسيسها على قاعدة صخرية، بعيدة عن مجاري الأودية وتأثيرات الطبيعة.
والوُصُول إلى تِلك الأبراج يحتاج لياقة؛ فهو يتطلب نزول واد عميق وعبور تلال صخرية مكتسية بالشكاع والسمر، إضافة لصعود تلال صخرية وعرة شديدة الانحدار، ويفضل زيارتها في وقت اعتدال الجو.

دَعْوَة لدراسة هذه المواقع، والمُحافظة على هذه الأبراج وترميمها، والعمل على تطوير البيئة المحيطة بها؛ فهي تُشكل وجهة سياحية مُهمة، إذا ما استُثمرت وسوِّقت بطريقة صحيحة؛ لما تختزنه من تراث طبيعي، غاية في الجمال والروعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.