عَشِق السُّوق القَدِيم مُنذ طفُولَته، فكَانَ ذاكرةَ المَكَان
والإنسَان، فبَيْنَه والسُّوق عَلَاقة إنسانيَّة، ومَحبَّة لا تنتَهِي.. يفترشُ بَسْطَته
ومَنْسَفه، فينثرُ عَليهَا ما طَاب من فَوَاكه المَوْسم، وفِي القَيْظ يَعرِض عَسَق
الخنيزي، وقَفر رُطَب القدمي، وزَبلان رُطب الخمري، وشَمَاريخ الخَلَاص، ورُطب الخَصاب
المخْمل.
وإِذَا مَا أَرَاد الوصُول إلى مَسْكَد ومَطْرَح ركب «البابُور»
بدن ولَاد صويدق، فيَمْخُر بِه عُبَاب البَحر بالشِّراع والغَادوف، ليَعُود بَعد
أيَّام سَفَر مُحمَّلا بالبضَاعَة والصُّوغات، ومَا إنْ يَلمَح السَّعتري بازغًا مِن
الغبّة نَفَخ في الجم مزمِّرًا بصَوتِه الشَّجِي، مُعلِنًا فَرْحة العَوْدة إلى
السُّوق من جَدِيد، كَان ذَلِك الصَّوت عَلَامة وُصُوله إلى البَندر.
قَضَى جُلَّ عُمرِه في السُّوق، لا يُفَارقه حتَّى في سقَمِه
ووَجَعه، تَجِده في الصَّباح البَاكر مُفتَرشًا أرضَ العَرْصة، وفِي المَسَاء على
مَنسَفِه أو بَسْطِته يُقلِّب حبَّات البَطيخ، مُدلِّلا جَمَالها الأخَّاذ، ورَائِحة
طَعمِها الزَّكي، تَسْمَع صَوْتَه الخَافِت والمميَّز من بَعِيد، وَسْط نِدَاءات
البَاعَة المُتداخِلة، والمُعتَّقة دَومًا بأعذَب الكَلام، وأَجْمَل الألحَان.
كَان قَنُوعا مُتَواضِعا فرحًا مُحبًّا للجَمِيع، يَلْقَى
النَّاس بالكَلام الطيِّب، والوَجه الطَّلق المُبتَسِم، لا يخلُو وقتُه مِن فُكَاهة
أو مِزَاح عَفَوي مَع مَن يُحِب. وعِندَما ضَعُف بَصره ونَحُل جسمُه بَعد سَنَوات
طَويلَة مِن عُمرِه في خِدمة السُّوق، لم يَستَكِن لضَعْفِه، بل تَجِده أوَّل النَّاس
من يَستقبلك فِي السُّوق بعد صَلاة الصُّبح.
هَكَذا استمرَّ إلى آخر يَوْم من عُمرِه، مُخلِصًا للسُّوق،
ليُودِّع مُحبِّيه، بعد عُمرٍ من الكِفَاح والعَمَل، وحَيَاة مَلِيئة بالنَّشَاط
المُستمر مِن أجلِ الاعتمادِ على الذَّات، لتنطَفِئ عِندَها أيقونَة جَمِيلة، وشُعلَة
مُكافَحة ومَحبَّة للحَياة في السُّوق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.