أذكر سن الطفولة، وأنا أتمعَّن تلك النُّخَيلات
التي أصبحتْ تتهادى بما تحمله من ثمار. تلك الأيام كانت مليئة بالنشاط والمرح،
وبالعمل والمُثابرة؛ من أجل نجاح مَوْسم القيظ؛ فالأطفال مُطَالبون بالقيام مُنذ
الفجر من أجل جمع ما يُتَساقط من ثمار النخيل في جيلها أو محيطها الجذري، ولهم في
ذلك أناشيد جميلة.
أتذكَّر تلك اللحمة المُجتمعية في أرقى مشاعر
المحبة والتعاوُن والإيثار؛ فأوَّل ما يجمعه المزارع من تباشير الرطب لا يُفكر أن
يذهب به إلى السوق من أجل المال؛ فتفكيره هو تبشير أهل بيته وجيرانه، على الرغم من
الحاجة للمال في ذلك الوقت، تجد كل صاحب مزرعة يرحب بمن يرغب الإقامة من سُكان
القرى الساحلية دُون أي تكدر أو ضيق، بل تجد الجميع يتعاون من أجل بناء تلك
المساكن المصنُوعة من الدفوع والدعون.
وفي نهاية موسم القيظ -بما يُسمى يوم الجداد- يجتمع
الجميع للمساعدة؛ فهُناك من يتناول عذوق النخلة من ميراد البيدار ومخلاته الخوصية،
وهُناك من ينقل تلك العذوق المحملة بشماريخ البسر أو الرطب أو السح إلى المسطاح،
والجميع ينشد: "طاح ميراده الجداد.. يشتغل على أولاده الجداد".
الأطفال والنساء أيضًا تجدهم يُرقطون ما يتساقط
تحت النخلة في أوعية تُسمى الزبيل والقفير والجبة، الأطفال الذكور يحملون القفر
والزبيل، والبنات لهن أوعية صغيرة مصنُوعة من الخوص أيضًا، ومزركشة بألوان تُسمى
الجبة، وهي أصغر حجما من الزبيل.
مَوْسم الكناز هو أحد أوجه التعاوُن بين أفراد
المُجتمع، فكل يوم تجد أهل القرية مع شخص من أجل كناز التمر، والكناز عملية جمع
التمر وهرسه بالأرجل حتى يُصبح ناعما أو عجينة، ومن ثمَّ يوضع في أوعية خوصية تُسمى
الجراب أو الخصف، وهي على شكل أسطواني، وتشك من الأعلى بأداة تُسمى المسلة، وخيوط
رفيعة تُسمى السرود.
وتتجسَّد عملية الكناز بأنْ يدعو صاحب التمر
جيرانه، وأهل محلته، للكناز في يوم معين، وفي مساء اليوم السابق للكناز يَجْمع
التمر في المسطاح على شكل هرم، ويرشه بالماء لتليينه، والمسطاح هو مكان مكشوف محاط
بسور من الدعون، وقد تُفرش أرضية المسطاح بالحجارة أو الدعون حسب طبيعة الأرض.
وفي الصباح الباكر، تبدأ عملية الكناز، وتسمى
أيضًا الهمبارة؛ حيث تفرش السمة، وهي دائرية الشكل ومصنُوعة من سعف النخيل، ومن ثمَّ
يقف الرجال في وسطها، ويقوم عدد من الصبية بنقل التمر من المسطاح في أوعية خوصية
تُسمى القفر، ومفردها قفير، وتسمى أيضًا مُبدع، ويتم نثر التمر في وسط السمة،
ويقوم الرجال بدوس التمر، أو المشي عليه بقوة، حتى يتحول إلى عجينة، ومن ثمَّ يقسم
في أوعية خوصية، وللهمبارة عادات وأناشيد معروفة وجميلة.
هُناك أيضًا زفانة الدعون؛ وهي عملية فنية لا يُتقنها
إلا من لديه الخبرة في ذلك، والدعن هي عبارة عن رص لخوص النخيل أي أغصانها اليابسة
بطريقة فنية، ويتم ربطها بحبال مصنُوعة من ليف النخيل أيضا، وللدعن مقاسات من حيث الطول
والعرض حسب رغبة صاحبها.
وقديمًا أيضًا، كانت هُناك في حيل الغاف مراجل
كثيرة للتبسيل؛ فحيل الغاف كانت مشهورة بنخل المبسلي، وأصبح اليوم معدوما.. وللتبسيل
عادات جميلة، وله قيمة اجتماعية واقتصادية، وهُناك أيضًا مُعاصِر مشهورة لقصب
السكر؛ حيث تتجلَّى فيها أوجه التعاوُن بين أفراد المُجتمع.
أضف إلى ذلك تلك الرَّمسات الجميلة في المساء
لتبادل الحكايات والقصص والأخبار، تلك العادات لا يعرفها اليوم الجيل الجديد، ومن
المُهم توثيقها وتسجيلها وتدريسها، ونشرها من خلال وسائل الإعلام المُختلفة،
والتعريف بها من أجل أن يعرف هذا الجيل كيف كان يعيش من هم قبلهم، وكيف كانوا يعملون
من أجل رفعة شأنهم، واعتمادهم على أنفسهم في توفير الحياة الكريمة والهانئة،
وببساطة شديدة دُون أي تكلف، يسودها جو التعاوُن والمحبة بين كافة أفراد المُجتمع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.