زيارة القرى والواحات الزراعية في مُختلف ولايات
السلطنة مُتعة لا تضاهيها متعة؛ حيث إنها فسحة للتأمل والتفكر في الجمال والطبيعة
الخلابة والبيئة البكر النظيفة؛ فكثيرٌ من القرى على الرغم من مُقومات الحضارة
التي أدخلتها النهضة المُباركة على مُجريات حياة السكان، إلا أنَّها ما زالت تحافظ
على عبق الماضي التليد، وعراقته المتأصِّلة في السلوك الإنساني القويم من عادات
وتقاليد عُمانية راقية.
الكثيرُ من الدول العالمية اهتمَّت بالسياحة
القروية؛ وذلك بهدف تعريف السائح بما تتميز به تلك القرى من مُقومات: حضارية، وتاريخية،
وأثرية، وعادات وتقاليد إنسانية، وفي الوقت ذاته فإنَّ ذلك يعدُّ تنشيطا للحركة
الاقتصادية لتلك القرى؛ حيث يُمكن لسكانها تسويق مُنتجاتهم الزراعية والحرفية.
في بعض الدول يُسمح للسكان باستضافة السياح في
منازلهم، وفق تنظيم مُحدَّد ومُعلن، ويعيش السائح أثناء إقامته مع تلك الأسر نفس
أساليب الحياة المحلية، ويتعرَّف على عادات المُجتمع وتقاليده، ويستمتع بالطبيعة
في الواحات الزراعية والجبلية، ويتذوق المأكولات الوطنية والمصنُوعة في المنزل. في
بريطانيا يسمون هذه الخدمة "بيد آندبركفاست"، وقد جَرَّبت هذه الخدمة، ووجدتها
خدمة خمس نجوم، مقارنة ببعض الفنادق في دُول عربية، والأسرة البريطانية مِضْيَافة
عكس ما نسمعه عن بعض الأوروبيين.
مُنذ فترة كانت لي زيارة إلى إحدى القرى النائية
في السلطنة لزيارة أحد المعارف، وكعادته استقبلنا أحسن استقبال، ووجدته مُفترشا
الرمال ومتوسِّدا وسادة محشوة بالقطن. سألته: تركت المكيف وتفترش هذا الرمل؟ قال
لي: هذا الرمل يُصلب الظهر، وهذا الهواء الطبيعي يريح النفس وينعشها. المكيف الذي
تتهافتون عليه هو سبب ضعف أجسامكم وخمولكم، لا تُكثروا الجلوس تحته فهو يضعف العظم
والبدن.
ويضيف: يا ولدي شباب هذا الزمان يعيش في نعمة
رغيدة وراحة تامة، يتمنَّاها الكثير ممن يعيش في هذا العالم، نحن زمان كانت الأمور
صعبة، وتوفير الحياة الكريمة ليس بالأمر اليسير، ولكن جاهدنا وصبرنا وثابرنا وعشنا
كما عشنا بقناعة وشُكر للمنعِم. أرى شباب اليوم مستعجلًا في كل شيء، ويقلد كل شيء،
فما إن يشتغل الشاب إلا ويركض إلى وكالة السيارات ليشتري سيارة، فهو يعرف أنه ما
عنده شيء لشراء سيارة، ولكن يتدين من البُنُوك لأجل تحقيق مبتغاه، زمان على الرغم
من ظرُوفنا الصعبة، إلا أننا ندبر أمورنا ببصيرة وتفكر في كل أمر، وتكون لنا
أولويات، ونأخذ الحياة بتدرج، وأهم شيء الرضا والقناعة بما قسم الله من رزق، وكل
واحد بظرُوفه، والواحد ما ينظر في يد الآخر، وإنما ينظر ما في يده، وينفق على قدر
دخله، والمُجتمع يعيش حياة رحمة وتعاوُن وتكافل.
ويُكمل الرجل حديثه: أقص عليك قصة واقعية، كان
عندنا رجل فقير اسمه "خادم"، في ذاك الزمان الكثير من سُكان القرية سافر
العالي (العالي: تعني إلى الخارج، وفي الغالب إلى دُول الخليج العربي)؛ من أجل
لقمة العيش وبعضهم للتعلم، إلا أنَّ "خادم" هذا من شِدة تعلقه بالمكان، لم
يرض بترك القرية، وعاش مع زوجته حياة فقر وتعب ونصب، ولكنه صبر وعمل بكد عرقه
لتوفير لقمة العيش حاله وأهله، وأهل الخير يساعدونه. وفي أحد الأيام، وصل جاره من
السفر، وعند مروره بمطرح اشترى جونتين عيش (العيش: هو الأرز عند أهل عُمان)، ووصل
القرية عن طريق البحر، وهذا السفري يقدر "خادم"، ويعرف ظرُوفه المادية،
وفي يوم من الأيام ناداه إلى منزله، قال له: تبعني باغينك في سالفة، وعندما دخل
معه البيت، أدخله البخار، وفتح جوينة العيش التي اشتراها من مطرح، وأخذ السدس وهو
مكيال معروف يُصنع من الخشب أو الحديد، وكال الرجل في دشداشة "خادم" كمية
من الأرز؛ حيث ذاك الزمان لا توجد أكياس كما هو عليه اليوم، وقال له هذا الرز لك
ولأسرتك هدية مني.
طار "خادم" فرحا بهذه الهدية؛ فالأرز
يومها من السلع النادرة في ذلك الزمان، والمقتدر والهنقري من يأكل الأرز، وكان الأرز
يُستورد من الهند، وسعره غالٍ جدا، ولا يمكن لأحد أن يشتريه إلا صاحب المال.
المهم، دخل "خادم" على زوجته، وقال هذا
العيش (الأرز) حافظي عليه، وكيلي منه كل يوم كيله واحدة حال عشانا؛ فقديما كانت
الوجبة الرئيسية عندهم هي العشاء. أما الغداء، فيكون خفيفا سمك مقلاي أو مغلاي وسِح
(تمر)، واستمرت تلك الأسرة تقتات من ذلك العيش. وفي يوم من الأيام، عندما قامت
زوجة "خادم" بأخذ كيلة من الأرز أو العيش، وإذا هي تسمع رنة (صنة) قروش
في المكيال، والقروش هي عملة معدنية مصنُوعة من الفضة (تُسمى محليًّا قرش فرنس، وهو
دولار ماري تيريزا من المسكوكات الفضية النمساوية)، كان يُتعامل بها في ذلك الزمان
ولها قيمة كبيرة.
بعدما شاهدت زوجة "خادم" القروش طارت من
الفرحة، وبلغت زوجها بما وجدته في العيش، طلب منها "خادم" السكوت، وأخبرها
أن هذه القروش ليست ملكه، وربطها في وزاره حتى الصباح، وما إن طلع الفجر توجَّه "خادم"
لبيت جاره، واستأذنه بالدُخُول، وما إن جلس بجانبه حتى ناوله القروش، وقال: هذه
القروش تخصك، وجدتها داخل العيش الذي تكرَّمت به علينا، وها أنا أعيد هذه الأمانة
إليك، فأنت أحق بها مني. فرح جار "خادم" أيما فرحة بهذا التصرف لجاره
الأمين، والقناعة التي يعيش بها على الرغم من حاجته للمال، فقال له: لا، فأنت أحق
بهذه النقود نظير تصرفك هذا.
ويُكمل مضيفنا الحديث: شفت كيف تصرف هذا الرجل،
اليوم تقرض صاحبك وتجده يُماطلك في حقك، وعندما تطالبه بالحق يزعل عليك، بل تجده يُخاصمك
ويصد عنك بسبب مطالبتك إياه لحقك. قلت ما هو سبب هذا الضعف الأخلاقي من وجهة نظرك؟
قال لي: أول شيء ضعف الإيمان في القلوب، وأصبح
الكثير من الناس يحبون المظاهر والتقليد وعدم الاكتراث بعواقب الزمان، وأصبحتْ
المادة هي مقياس معادن الرجال، والكثير من الناس لا يعنيهم إلا أنفسهم فقط، ولا
يلتفتون على بشر، ولا على شجر، ولا على حيوان.
قُلت له: وما هي الحلول من وجهة نظرك ونصيحتك، قال
لي: الأهم هو التربية، ثم غرس القيم والفضائل الحميدة في نفوس الشباب مُنذ الصغر؛
فالإعلام عليه دور، والمدارس عليها دور، البيت عليه الدور الأهم، وكذلك المُجتمع
عليه دور، والدعاة الذين تجدهم في المساجد يُحدِّثون الناس عليهم دور، وعليهم
معرفة ودراسة واقع المُجتمع ومُشكلاته قبل التصدي لهذه المُهمة الخطيرة، وتنظيم
مسألة الدعوة والمحاضرات في المساجد تحتاج إلى ترتيب وتنظيم ومتابعة من قبل وزارة
الأوقاف والشؤون الدينية؛ فليس كل واحد مؤهلًا للحديث عن الدين والأخلاق والقيم.
قُلت له الحياة تغيَّرت، ومُتطلباتها أصبحت كثيرة،
وطبيعتها أصبحت متسارعة، قال لي: صحيح كلامك؛ ولهذا كل يوم تتزايد حوادث السيارات
من كثرة الركض وراء الدنيا، وما هم بقادرين يسبقونها.. الدنيا محتاجة إلى قناعة
وصبر وتأمل وتفكر يا ولدي، وكل زمان بصرفه والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.