هذه بعضُ الذكريات، والمشاهد، والانطباعات، والمشاعر الشخصية، التي واكب بعضُها منظرًا لصُورة التقطتها من البيئة والطبيعة العُمانية، أو ذكرى من التاريخ والتراث الثقافي انطبعت في الذاكرة والوجدان، أو تأثر وانطباع خاص تجاه موقف أو مشهد من الحياة، أو شذرات من رُؤى ونظرة مُتواضعة إلى المُستقبل، أو وجهة نظر ومُقترح في مجال الإدارة والتنمية الإنسانية.. هي اجتهادات مُتواضعة، من باب نقل المعرفة، وتبادل الأفكار والخبرات، وبهدف التعريف بتراثنا الثقافي (المعنوي، والمادي، والطبيعي)، ومنجزنا الحضاري.
الأحد، 31 مايو 2015
مرحبا رمضان
قريبًا سيهلُّ علينا شهر الخير، وأصبح الكثير من
الناس يستعد لاستقباله، كلٌّ على حسب طريقته، وبعد أيام سيحتفل أطفال عُمان بعدد
من ولايات محافظتي الشرقية بالشعبانية، والشعبانية تُقام عادة في مُنتصف شهر
شعبان، وهي احتفال بهيج للأطفال استعدادا لقدوم شهر رمضان.
والشعبانية في طقوسها وممارستها قريبة من القرنقشوه
التي تقام في ليلة النصف من رمضان في عدد من ولايات السلطنة، إلا أنَّ الكلمات
التي يُردِّدها الأطفال في المناسبتين مُختلفة، لكنها لها نفس الروح والدلالات
والمعاني الإنسانية.
هُناك الكثير من الممارسات المُجتمعية القديمة
التي كانت تقام لاستقبال الشهر الفضيل وفي أيامه المُباركة، بعضها قد تغير بسبب
حراك المُجتمع وتطوره، وهُناك ما هو باقٍ إلى يوم الدين؛ لأنها مُرتبطة بالعبادات
وعلاقة الإنسان بربه وبأخيه الإنسان.
قديمًا، في الأيام الأخيرة من شهر شعبان، تجدُ
جميع الأسر تستعد لأيام رمضان؛ سواءً بالذِّكر أو تجهيز كل ما يقدم في أوقات
الإفطار من أطعمة ومشروبات أيام رمضان؛ حيث تجد النساء في تجمعات لطحن الحبوب
والبهارات على الرحى أو في المدق، بما يُسمى الموقعة، وعادة تصنع الموقعة من جذوع
النخيل أو من الحديد.
وكانتْ تقام بعض العادات في الأيام الأخيرة من
شعبان لاستقبال أيام الصيام، وهي مُختلفة من مكان إلى آخر من قرى عُمان؛ ففي ظفار
في جنوب عُمان يقيم بعض الأهالي ما يُسمى بقتل الحنش، وفي بعض المُحافظات
والولايات والقرى الشمالية يقيمون ما يُسمى بيوم الدرنة، ويقول المثل: "اليوم
ضرب الدرنة، وباكر كل حد في قرنة"؛ أي جالس في زاوية؛ حيث لا طعام حتى وقت
الفطور.
ولتلك العادات دلالات اجتماعية تحتاج لدراسة؛ ولعل
على رأسها: سمة التعاوُن والتسامح، ونبذ الاختلاف، وتعزيز صلة الرحم والقيم الإنسانية
بين الناس.
"قتل الحنش" و"ضرب الدرنة".. تصحبهما
إعداد وجبة دسمة تقام في اليوم الأخير من شهر شعبان تتجمع عليها الأسرة، وعادة ما
تكُون وجبة غداء، والكثير من الأسر تقوم بتأخير وجبة الغداء في ذلك اليوم إلى فترة
متأخرة من العصر؛ حيث يعدون تلك الوجبة في ذلك اليوم كغداء وعشاء في نفس الوقت؛ لأن
السحور سيكُون حاضرا في وقت متأخر من الليل من ذلك اليوم.
زَمان، كان يتم إعلام الناس برؤية هلال شهر رمضان
عن طريق إطلاق المدفع، وكذلك أيضًا عند رؤية هلال شهر شوال.
وقديمًا أيضًا، كان الناس حريصين على استطلاع هلال
شهر رمضان؛ فتجد كل واحد منهم ينظر إلى موقع الغروب ليحظى برؤية الهلال، ليقوم
بإعلام الوالي أو القاضي إذا ما رأى الهلال بازغا في السماء، فيما اليوم هُناك
لجان قد تم تشكيلها لهذا الغرض في كل ولاية من أرض عُمان.
القرى النائية يتمُّ إعلام أهلها عن طريق الطارش،
وهو رجل يكلف بهذه المُهمة، وعادة ما يركب دابة كالحمار أو الجمل أو الحصان، أو
مشيا على الأقدام، أو عن طريق قارب الشراع، أو يتم تجديفها بالغادوف إذا كانت
القرية يُمكن الوُصُول إليها عن طريق البحر، ووسيلة الطارش ثم وسيلة البرقية كانت
فاعلة في ذلك الزمان؛ لعدم توافر وسائل الاتصالات كما هي عليه هذا الزمان.
كان الناس يحرصون على ترديد نية الصيام بعد صلاة
أول تراويح جماعة، ويسمَّى ذلك عقد رمضان؛ حيث يردد جميع المصلين عبارات النية مع
الإمام، ولها صيغة معينة وعبارات متداولة بين الناس؛ فعادة تقام صلاة التراويح في
نفس ليلة رؤية الهلال في المساجد والجوامع وحتى انتهاء آخر ليلة من رمضان، فيما
يتولَّى أحد العارفين تلقين النساء النية في البيوت، وعادة ما تكُون جهرية وجماعية
أيضا، اختفت هذه العادة الآن لانتشار التعليم، ولكون "النية محلها القلب".
هُناك الكثير من المأكولات تقدم خلال شهر رمضان
بدون إسراف، وكان على رأس هذه المأكولات: التمر أو الرطب، إذا جاء رمضان في أشهر
الصيف كعامنا هذا، وكذلك الفواكه كالبطيخ والشمام والجح.. وغيرها من الخيرات
الكثير.
ومِن بَيْن ما يُقدم في ليالي رمضان أيضا: الشربة
والسمنة بالحبة الحمراء أو باللوبيا، والهريس، فيما السمك المقلاي يكُون على كل
وجبة إفطار مع الخُضراوات والسُلُطات كالفجل والخس والخيار والملفوف.. وغيرها،
وكذلك الثريد أو ما يُسمى الفتة، وهي وجبة تتكون من خبز الرخال والمرق واللحم أو
الدجاج أو السمك.
دخلت مأكولات جديدة على المائدة الرمضانية هذه
الأيام، كالسمبوسة والباكورة والكستر، وأنواع عديدة من الحلويات والمشروبات
والعصائر المُختلفة، ولعلَّ أبرزها: الفيمتو، بأنواعه، وأشكاله.
هُناك ثلاث وجبات رئيسية في ليالي رمضان، وبينها
بعض المأكولات الخفيفة؛ أول هذه المأكولات الرئيسة: الفطور بعد أذان المغرب
مُباشرة، وعادة ما يكُون خفيفا مع شربة ماء باردة زلال من حب أو خرس أو جحلة
مصنُوعة من طين عُمان، ثم تناول وجبة العشاء بعد التراويح، وأخيرا السحور، وعادة
ما يكُون السحور عبارة عن وجبة تتكون من الأرز -ونسميه العيش- مع اللبن، إلا أن
اليوم هُناك من المأكولات ما لذ وطاب.
قديمًا، كان المسحَّر هو الموقت الوحيد لتناول
وجبة السحور؛ فهو يطُوف الحوائر والأزقة بين البيوت بطبلِه الكبير وصوته الشجي،
مرددًا: "اصح يا نائم وحد الدائم... سحور سحور يا نائمين"، وفي نهاية
شهر رمضان يقوم كل بيت بتقديم الهدايا للمسحر، وكثيرا ما تكُون كمية من التمر أو
بعض النقود كالبيسة السوداء أو قرش فرنس فضي، فكل واحد يقدم الهدايا للمسحر وفق مقُدرته
وإمكانياته دُون تحديد، اليوم لم نسمع صوت المسحر في ليالي رمضان؛ بسبب توافر
وسائل ومواقيت حديثة تبهر الإنسان.
ما يُميِّز شهر رمضان امتلاء المساجد والجوامع
لأداء صلاة التراويح والتهجد وقراءة القرآن الكريم؛ حيث يحرص كل فرد على ختم
القرآن عدة مرات في هذا الشهر الفضيل.
ويحرصُ الكثير من سُكان القرى على تناول وجبة
الإفطار في شهر رمضان جماعة؛ سواءً في مجلس عام أو في صحن المسجد القريب من البيوت؛
فكلُّ بيت يقدم أحد الأنواع من الطعام، لتجتمع عليه الناس بقلوب تملؤها القناعة
والصفاء والمحبة وسعادة الإنسان.
مِنَ العادات الجميلة في رمضان تبادُل المأكولات
وأصناف الطعام بين الأهل والجيران، وعادة ما يكلف بها الأطفال لتعويدهم على أعمال
الإحسان والعطاء والتصدق في مثل هذه الأيام، إضافة إلى زيادة العزائم والتواصل بين
الأرحام والجيران.
يتميَّز شهر رمضان أيضًا بالنشاط والحيوية في
تأدية الواجب والأعمال؛ فتجد المزارِع في مزرعته، والصانِع في مصنعه ومعمله، والتاجِر
في متجره، والبحار على قاربه، وطالب العلم في مدرسته من أول الصباح وحتى المساء،
وفي الظهيرة يهجع الناس تحت ظلال الأشجار؛ حيث لا كهرباء ولا تبريد مروحة ولا مكيف
هواء.
كَانُوا يتبردون بمياه الأفلاج والآبار والوديان،
خاصة في فصل الصيف شديد الحرارة، كما لا تجدهم يتذمرون من التعب أو بشدة الصيف؛ فكانوا
دومًا مُجتهدين في أداء واجبهم وأعمالهم بصبر وعزم طوال الأيام.
ومَا إنْ ينتصف الشهر الفضيل، وإذا بالأطفال
يحتفلون بيوم القرنقشوه، وهي عادةٌ جميلة يُشعر بها الأطفال أهلهم وجيرانهم بأن
النصف الأول من شهر رمضان قد انتهى، وعليهم بالاجتهاد في باقي الأيام.
القرنقشوه.. لها كلماتٌ جميلة يردِّدها الأطفال
بصوت جميل مع قرع حصاتين سيرا على الأقدام، وعادة ما تكُون جماعية، ويحظى الأطفال
في ذلك اليوم بهدايا رائعة من قبل كل بيت يطُوفون عليه في ذلك المساء الجميل،
وتبدأ القرنقشوه عادة بعد صلاة المغرب وحتى بداية وقت العشاء.
هَذِه بعض عادات أهل عُمان لاستقبال شهر رمضان،
وهُناك الكثير من عادات ليالي رمضان قد تغيَّرت بسبب تغيُّر الزمان ودُخُول وسائل
الإعلام، إلا أن قُدسية أيام رمضان ولياليه باقية على مر الأيام.
كَمَا أنَّ قيم التكافل المُجتمعي، والقناعة، والرضا،
والتعاوُن، والصفاء، والتسامح، ومحبَّة الإنسان لأخيه الإنسان، ستظلُّ باقية في
أهل عُمان على مر الأزمان، بإذن الواحد المنان.
هَذَا ما خطَّه أخوكم صالح، الداعي لكم بالصِّحة
والسعادة، وبكل الخير أيُّها الأصدقاء المحبين الكرام؛ من أجل تذكر أيام الآباء
والأجداد وسالف الأيام.
أعَاد اللهُ عليكم رمضان بالخير العميم، على مدى
الدهور والسنين والأعوام، والمعذرة عن كلِّ تقصير أو نِسْيَان أو زلَّة لسان.
السبت، 23 مايو 2015
الجراد
زَمان، عندما ينتشر الجراد الصحراوي في منطقة ما، تجد
الناس يهرعون لصيده بشباك تُسمى الغل، ويتم طبخه في ماء وملح، ومن ثم يقدم وجبة
شهية بعد انتزاع الرأس والأجنحة، وله طعم ممتاز.
اليوم، قرأتُ في صحيفة محلية تفيد بأنَّ هُناك
دراسة علمية أُجريت على الجراد الصحراوي، وخلصت الدراسة بأن الجراد له فوائد
للتقليل من أمراض القلب.
الجمعة، 22 مايو 2015
تهنئة
نُبَارِك لكم أيُّها الأصدقاء أول جمعة من شعبان،
ونسأله تعالى أن يرزقكم نفحات رمضان وخيراته العميمة.
حرارة الصيف
اليوم، بعد صلاة الجمعة، كان لي لقاءٌ مع أحد
الأصدقاء، كان متذمِّرا من قسوة الجو وشدة الحرارة، ونحنُ على أبواب رمضان. قُلت
له: نظرتك وتفكيرك هما ما جعلاك تشعر بألم الصيف وتأثيره، بينما يراه الكثير من
البشر عكس ذلك تماما، ويستمتعون بإطلالته ومتعته وخيراته الوفيرة.
تلك هي طبيعة الحياة، هي في تغيُّر مُستمر، وهذا
التغير والتداول هو في حقيقته في صالح الإنسان؛ فثبات رتم الحياة مَدْعَاة للملل
وعدم التجديد، وما على الإنسان إلا التأقلم مع متغيرات الجو وغيره من الظرُوف.
وعلى الإنسان أيضًا أنْ ينظرَ إلى غيره ممن يعيشون
في قسوة أشد من حرارة الصيف، ويحمد الله على كل شيء ويصبر، فإن الصيف يجلب معه
خيرات كثيرة، نحن في غفلة عنها.
الصرّوخ
أيَّام زمان، عندما تسمعَ صوتَ أو أزيزَ الصروخ
(حشرة السيكادا) على الأشجار، فإنَّ ذلك دليل على أنَّ الصيف في عُمان قد دخل.
ومحليًّا يقال بأن الصراريخ (جمع صروخ) قد بدأ صريخها.
تِلك الحشرة العجيبة تتَّخذ من الأشجار مسكنًا
لها، وما إن تُشرق الشمس وإلا هي تبدأ بعزف موسيقاها، فتسمع أزيزا وصريرا متواصلا
طول النهار، وإذا ما اشتدت الحرارة وقيظ الصيف، فهي تشتد صوتا وزعيقا، متحدية تلك
الحرارة العالية، ويقال إنَّ الذكور هي التي تصدر هذا الصوت الموسيقي دُون الإناث.
كَان الأطفال يلهُون بهذه الحشرة ذات الرأس
المفلطح، والعيون الجاحظة الجميلة، والشعيرات اللطيفة، والجناحين الأملسين الصافيين
والشفافيْن، لهذا تجدهم يتسلقون الأشجار للإمساك بها.
وعِند جلوسك تحت غافة، أو سدرة، أو سمرة للتبرد من
حرارة الجو، ترش تلك الحشرات سائلا باردا على المارين والجالسين، وهو عبارة عن عُصارة
مائية؛ فهي تمتص عصارة أوراق الأشجار كالغاف والسدر والنخيل أيضا.
تلك الحشرة تعيش في شكل جماعي، والدارس لسلوكها
فهي متعاوُنة مع بعضها؛ فما إن تشعر بقدوم خطر إلا ويخفت ذلك الصوت ويتوقف للتمويه
عن وجودها، وكذا في حالة انتقالها من شجرة إلى أخرى، أو من غصن أخضر إلى آخر.
العَجِيب أنَّ هذه الحشرة ما إن يعلن الصيف رحيله،
فهي أيضًا تختفي عن الأنظار؛ فتجدها يابسة على أغصان الأشجار أو على حصى الجدران،
كان يُعتقد بعض الأهالي بأنها ستحيى من جديد؛ لهذا القليل من يتعرض لهياكلها
اليابسة، والحقيقة كما يقال أنَّ يرقاتها تختفي في الشتاء تحت التراب في باطن
الأرض؛ لتظهر من جديد في صيف جديد.
شاهدتُ بعضَ الطائرات القتالية تحاكي في شكلها
مجسم وهيكل الصروخ، إلا أن شتان بين هدفيهما في الحياة.
الخميس، 21 مايو 2015
انطباع سائح
اليوم، التقيتُ سائحًا من استراليا في مطرح، يزُور
السلطنة لأول مرة، بادرتُه بالتحية، وسألته عن انطباعه لزيارته للسلطنة، وإذا به
يعبر عن سعادة غامرة وفرحة كبيرة لهذه الزيارة رغم قسوة الجو، ويشعر بالبهجة بلقاء
العُمانيين وحسن تعاملهم مع السياح.
اقترحتُ له زيارة بعض المواقع والمتاحف في مُحافظة
مسقط، وبعض المدن العُمانية التاريخية، وعندما سمع بأن مُحافظة ظفار والجبل الأخضر
في نزوى ستُكون مثل أوروبا في طقسها في بعض أشهر الصيف، بدا مُندهشا ومُستغربا.
وإذا به يَفْتَح الإنترنت في هاتفه ليحدِّد تلك
المواقع؛ بهدف وضع خُطة لمسار رحلته في هذا العام والأعوام المقبلة بهدف زيارتها.
الثلاثاء، 19 مايو 2015
الاثنين، 18 مايو 2015
رأس أبو داود
في مَطْلع التسعينيات من القرن الماضي، رافقتُ
فريقاً إعلاميًّا لتصوير بعض المشاهد التليفزيُونية لشواطئ قُريات، لإعداد تقرير تليفزيُوني
عن شواطئ الوُلاية.
بدأنا من شاطئ مكلا وبر في فنس حتى رأس أبو داود
القريب من السيفة، وعلى الرغم من جمال هذا الشريط الساحلي، إلا أن رأس أبو داود -أو
راس بوداود، بلهجة أهل الساحل- كان الأجمل تأثيرا على نفوسنا.
لَعلَّ انبهار الزيارة الأولى كان للمكان، وتجليات
حكاياته الأسطورية والتاريخية عبر قرون من الزمن والراسخة في الأذهان.
لم يحظَ هذا المكان بالدراسة والاهتمام على الرغم
من أهميته التاريخية والطبيعية والسياحية؛ فهو عبارة عن رأس جبلي ممتد في عمق
البحر، ويُشكل نهاية لمسار جبل السعتري المشهور محليًّا بنباتات طبية عديدة، وعلى
رأسها شجرة الزعتر (السعتر).
قديمًا، كان رأس أبو داود أكثر شهرة، وذلك في فترة
ما قبل اختراع السفن البخارية، وتحول الملاحة البحُرية عبر المحيط إلى مسارات
جديدة؛ فكان علامة بحُرية مشهورة لمسار السفن العابرة للمحيط الهندي وبحر عُمان،
وكذلك للسفن المتجهة إلى مسقط ومطرح وساحل الباطنة وُصُولا إلى مدخل الخليج العربي.
أَضِف إلى ذلك أنه كان بمثابة حوض طبيعي تلجأ إليه
السفن قديما للاحتماء من التيارات البحُرية وعواصف الحيمر والرياح الشديدة... وغيرها
من الأنواء البحُرية والجوية؛ وذلك لطبيعة المكان وعمق البحر وتكوينه الجيولوجي.
لهذا المكان سحر جمالي أخاذ، تتجلى فيه كل عطايا
الجُغرافيا الطبيعية في عُمان: هدوء المكان، وسكون الطبيعة، وتنوع التضاريس، وتعدد
الحياة الفطرية البرية والبحُرية، كما تقع بالقرب منه مصائد سمكية غنية بالثروة
السمكية.
تَسمَع لأمواج البحر الهادئة سيمفونية طبيعية عندما
ترتطم بحنية على الصخر، وتتداخل في فوالق الصخر وشقوقها بطريقة مذهلة، محدثة صوتا
موسيقيا عذبا تعزفه الطبيعة.
كان أهل قُريات وأهل السيفة يصلون إليه مشيا، أو
على الدواب، أو بقوارب الشراع والغادووف. اليوم، البحر قد ابتلع الكثير من الشاطئ،
خاصة بعد ما خلفه إعصارا "جونو" و"فيت" قبل سنوات قريبة من
تغيير لمعالم الطبيعة في قُريات؛ الأمر الذي غيَّر الكثير من المسارات القديمة إلى
ذلك المكان الرائع في عُمان.
لَا أدري لِمَ لا يُهتم بهذا المكان ويُتخذ معلمًا
سياحيًّا بارزا؛ فهو قريب من مدينة مسقط العامرة، وإذا ما تم تطويره وشق إليه طريق
بحري يربط مسقط بشرقية عُمان سيكُون لهذا الطريق شأن عظيم في تعزيز صناعة السياحة
الشاطئية في عُمان.
جمال التضاريس في عُمان
فِي الطبيعة العُمانية روائع تضاريسية.. انظروا
إلى هذه الصخرة كأنَّها مغروسة في الأرض بمَيَلان مُتقن.
هذه الصورة التقطتها في زيارة عمل إلى بلدة تعب
الجبلية بولاية قُريات في تسعينيات القرن الماضي، والجالس هو نائب رئيس بلدية مسقط
الأسبق الأستاذ حسين سعيد، كان شخصية مُتواضعة ومحبًّا لعمله، ولهذه الزيارة قصة
مثيرة.
الأحد، 17 مايو 2015
كلمات مضيئة
من أقوال جلالة السلطان المُعظم -حفظه اللهُ ورعاه-
في خطابه بمناسبة عام الشبيبة في العام 1983م:
"أيها
الشباب: تدركون مدى التضحيات الجسيمة، والجُهُود المخلصة التي قدمها شعبنا الأبي
خدمة لخير ومصلحة هذا البلد العزيز، ودَوركم الآن أيها الشباب هو إعداد أنفسكم: تعليما،
وتثقيفا، وسلوكا، واسترشادا لتحمل مسؤُوليات المُستقبل. وليس ذلك بالسهل، فإن
عليكم لزاما أولا المُحافظة على المكتسبات والإنجازات التي تحققت بنضال آبائكم من
قبل، ثمَّ العمل على أن تزيدوا ما استطعتم من خير ونماء، من أجل المصلحة العامة، جاعلين
نصب أعينكم أن الخير والرقي والاطمئنان لا يمكن تحقيقها إلا بالجهد والجد.
إنَّ مرحلة الشباب التي يمرُّ بها المرء هي مرحلة
أفكار وتطلعات وتخطيط طموح للمُستقبل، ومع أنَّ هذه المرحلة تعيش في واقع من
التصورات والتوقعات والآمال بهدوء ودعة، لكنه لا يحسن للشباب أن يمكثوا طويلا في
هذا المرحلة، بل عليهم أن ينتقلوا وبسرعة إلى مرحلة التطبيق والعمل في تأدية
الواجب الوطني".
رؤية أستاذ جامعي
درستُ على يد الأستاذ أحمد سليم الأستاذ بجامعة الإسكندرية،
مساقًا علميًّا يسمى "التخطيط الإستراتيجي".
كَان شخصية رائعة وهادئة ومحفِّزة، وفي أول لقاء
معه طلب من كل طالب أن يكتب رؤية ورسالة وأهداف لحياته الشخصية، وأن يصوغ خُطة
لتنفيذها لمراحل عمرية قادمة، كما يراها في المُستقبل في ضوء الإمكانات المتاحة له.
وطَلَب أن يعُودوا في المُحاضرة القادمة لتسليمه
كل واحد منهم خطته الحياتية لمراجعتها.
أَدركتُ حينها أنَّ الذي لا ينجح في التخطيط
لحياته الشخصية، لا تنتظر منه أن يُحقِّق نجاحا في تخطيطه الإستراتيجي لمُستوى
أعلى.. لبلده.
الجمعة، 15 مايو 2015
رسالة إلى الأصدقاء
أيُّها الأصدقاء: كل ما يكتب على هذه الصفحة هدفُه الوحيد هو تبادل المعرفة والخبرات وتجارب الحياة، والتعريف بتراثنا الثقافي والطبيعي؛ فهو جَهد المُقل، والأمل أن يكُون في ذلك فائدة، وكثيرًا ما أستخدم عينة من الأصدقاء للتعرف على سير ما يكتب ومدى ما يمثله من قيمة مضافة؛ بهدف التقويم والمُراجعة والتطوير، فلهُم الشكر على النصيحة والرأي والتصويب.. والله من وراء القصد.
الخميس، 14 مايو 2015
أوَّل القيظ
أغرته تلك الشماريخ المستديرة المحملة بالبسر، مُرصعة
واحدة فوق أخرى بانتظام، تتدلَّى إلى الأرض بجاذبية، تُحركها الريح يُمنة ويسرة، لونها
الأصفر البهيج يجذب النفس؛ فتسلق تلك العوانة بيديه، يحضن جذعها الخشبي كمُحبٍّ
وفي، لعله يحظى برطبة أو قيرينة قدمي يُبشر بها والديه في أول القيظ.
الأحد، 3 مايو 2015
السبت، 2 مايو 2015
نظرة شخصية إلى دور الأندية
جَمَعَني الأمس ببعض الأصدقاء، في جلسةٍ مُفعمة
بالحب والتقدير والشوق، طافَ الحديث بنا بذكريات جميلة في فترة العمل في إدارة
نادي قُريات؛ وذلك في فترة تسعينيات القرن الماضي، وتطرَّق الحديث إلى مُتطلبات
هذا العصر، وتوجهاته تجاه صقل قدرات الشباب: رياضيًّا، وثقافيًّا، وفنيًّا، واجتماعيًّا،
وتمَّ سرد هموم الرياضة ونتائجها وكلام كثير مفعم بالإخلاص والحيوية.
قدَّمت رأيًا حول هذا النقاش، مفاده أنَّ عقليات وتوجهات
شباب اليوم مُختلفة تماما عمَّا كُنا عليه قبل سنوات، لا يمكن أبدا أن ننظر إلى
الماضي مهما كان حلوا، بل من المُهم التعامل مع الشباب بمنظور جديد ومتجدد؛ فهم
يعيشون عصرا مُختلفا، وتطلعات مُختلفة عمَّا كنا نعهدها.
قُلت أيضًا -من باب خبرة- إنَّ العمل التطوعي
يحتاج صبرًا في المقام الأول، ولا يُمكن لأي عمل أن ينجح دون وُجُود رؤية واضحة
ورسالة هادفة وأهداف قابلة للتطبيق والقياس، إضافة لخُطة واقعية تستوعب الواقع والإمكانات
المتاحة.
وَمِن المُهم أيضًا للإداري في النادي أنْ ينزل
ويصعَد إلى مُستوى تفكير كل فرد يتعامَل معه، حتى يكسب ويؤثر في فكره وتوجهاته، ويكتشف
ما لديه من مواهب وقدرات يُمكن أن يستثمرها لخدمة المُجتمع إيجابيًّا.
النظرة التقليدية للنادي في عُمان عمومًا بأنه
فريق للقدم وآخر لرياضات مُختلفة، أو من أجل الفوز في المُسابقات، يجب أن تتغير
وتتطور على الرغم من أهميتها أيضا؛ فالنادي يجب أن يخدم جميع شرائح المُجتمع؛ سواءً
كان طفلا أو شابا، أو كهلا أو عجوزا، ودوره هو توفير سبل الترفيه والتوعية وصقل
المهارات من أجل صناعة المُستقبل، وهذا لا يتأتى تحقيقه إلا بتوفير البنية الأساسية
للنادي مكتمل الأركان، وهذا من أهم الأمور التي يَجِب على الدولة مراعاتها، وكذلك
القطاعات الأهلية والخاصة من منظور مسؤُوليتها الاجتماعية.
الأندية في عُمومها -بالطريقة التي تعمل عليها
الآن- لا يُمكن أبدا أن تتطوَّر وتلبِّي مُتطلبات شباب اليوم؛ لهذا من المُهم جدًّا
أن تكُون هُناك نظرة جديدة لرسالة الأندية في السلطنة.
الجبل الأسود في قريات
الجبل الأسود.. سلسلة جبلية شاهقة تطلُّ على عددٍ
من القرى الجميلة، وهي امتدادٌ طبيعيٌّ لسلسلة جبال الحجر الشرقي الممتدة من سمائل
بداخلية عُمان وحتى جعلان بشرقية عُمان.
تتميَّز سلسلة الجبل الأسود بأنها تكتسب نفس خاصية
الجبل الأخضر بداخلية عُمان، من حيث ظرُوف الطقس وبرودة الجو؛ فدرجات الحرارة على
سطحه معتدلة صيفا وباردة شتاء، وتنمو فيه أشجار ونباتات عديدة لا تعد ولا تحصى؛ منها:
نباتات طبية مشهورة في الطب الشعبي، وهو مشهور أيضًا بنبات السعتر (الزعتر)، وكذلك
بالزيتون البري، ويطلق عليه محليًّا بالعتم.
يزيدُ ارتفاعُ هذا الجبل إلى أكثر من 2000 متر؛ لهذا
تتكاثر فيه حيوانات فطرية عديدة كالوعل والغزال العربي... وغيرها من الحيوانات
والطيور النادرة؛ لهذا خصت الحُكُومة الرشيدة جزءًا منه محمية طبيعية.
تتخلَّل هذا الجبل طرقٌ قديمة إستراتيجية تربط
ولاية قُريات وساحل بحر عُمان بولايات أخرى في داخلية وشرقية عُمان، وكذلك
بالعاصمة مسقط العامرة، ولا يَقْصُد تلك الطرق إلا الماهر بخبايا الجبال ووعورتها،
وكانتْ لها شُهرة على مرِّ الزمان والعصور، ولها شأنٌ في تاريخ عُمان: الاجتماعي، والاقتصادي،
والعسكري.
ويتميَّز هذا الجبل بانكسارات وفوالق صخرية خطيرة
على حوافه، إلا أن سطحه فسيح ممتد، وبه كهوف عميقة ومغارات عديدة وشهيرة، وسطحه
أيضًا يفتقر للمياه إلا ما ندر، بسبب الانحدارات العديدة وطبيعة صخوره النفاذية،
ولو مدت له المياه من الأودية المطلة عليه -كوادي ضيقة مثلا- لكان له شأن في تنمية
الثروة الزراعية، خاصة في زراعة الأشجار التي تنمو في الأجواء الباردة، كما هي
عليه في الجبل الأخضر في داخلية عُمان.
مَا يُميِّز هذا الجبل أيضًا أنَّ قاعدته وفوالقه
الصخرية، تنبع منها مياه خصبة على شكل عيون ومجارٍ للأودية الغزيرة، وتلك هي حكمة
ربانية للتفكر والتدبر في قُدرة الله، وللتأمل أيضًا في جمال التضاريس وعطاء
الطبيعة؛ لهذا أجرى سُكان القرى المطلة على الجبل الأسود أفلاجا عدة، كما هي عليه
قرى: صياء، وعرقي، والسواقم، والفليج، وقطنيت، والمسفاة، وعباية، والمزارع، وفيق، وسوقة،
وعمق، ووادي العربيين، ووسال، وحريمة، وتعب... وغيرها.
تَنبُع تلك المياه من بين فوالق الصخور بكميات
محددة ومُتجددة مُنذ آلاف السنين، لا يُمكن للإنسان أن يتدخل فيها، وبعضها لا
تتأثر أبدا بالمحل، ومتى حاول الإنسان أن يُغير طبيعة تدفقها، فقد يجد غيرَ ما
يتوقعه، وهنا أذكر في سنة من السنوات أنْ قام بعض الأفراد في إحدى القرى المطلة على
هذا الجبل بمحاولة إزاحة بعض الصخور والجنادل العملاقة التي ينبع من تحتها تلك
المياه؛ بُغية الحُصُول على مياه أغزر وأوفر، وإذا بالمفاجأة بأن صخرة كبيرة تقع
عليهم لتُرديهم أمواتًا، ولم يستطع أحد إخراجهم من تحتها إلا بشق الأنفس، حتى كاد
أن يصل الأمر إلى تقطيعهم إذا لم يتم التمكن من إخراجهم من تحتها.
الجبلُ الأسود.. رغم هذه التسمية، إلا أنه مشرق
ببياض ونقاء، وبعطاء وصفاء، يوفر البهجة والأنس والراحة لجميع الكائنات الحية التي
تعيش على صفحه البهي، وتلفه السحب الناصعة دوما بحِنية وسَكِينة.
وقد تحدَّى الإنسان العُماني وعورَته وصعوبَته،
واستطاع أن يحولها لخدمته والبيئة التي يعيش فيها؛ لهذا تجد سُكانه لا يزال لهم
ارتباط عميق بالمكان وطبيعته البكر، لم تُغرِهم المدنية على الرغم من وُصُولها
إليهم، تجدهم يعيشون في سكينة عميقة، والهدوء يلف مكانهم، لا ضوضاء ولا نكد، تهب
عليهم نسمات صافية تنعش النفس والفكر.
استطَاع سُكان هذا الجبل أنْ يُحافظوا على سلالة عُمانية
مُهمة للماعز الجبلي، ويضرب بها الوصف؛ لهذا يُقال على الذكور منها: جداية الجبل
الأسود. فهي مشهورة بهذه الثروة ذات الجودة العالية، والتي من المُهم الالتفات
إليها بعناية فائقة قبل اندثارها وفقدانها، في ظل مُغريات الحضارة والمدنية
الجديدة، ودُخُول سلالات حيوانية وافدة إلى هذا المكان من خارج عُمان.
وفي الختام، أتطلَّع أن يُنظر إلى هذا الجبل من
منظور اقتصادي؛ فهو بحق ثروة عظيمة في مجال التنمية الزراعية والطبيعية، وكذلك في
مجال الصناعة السياحية في الطبيعة والبيئة العُمانية؛ وذلك إذا ما استُثمر بطريقة
صحيحة ومدروسة.
الجمعة، 1 مايو 2015
ذاكرة طفل
يلتقطُ حبات الخلال الخضراء، يجمع أصحابه ليلعبوا
معا، يغرس السلاة في قمعة الخلالة، يُديرها بقوة على أرضية صلبة، تدور الخلالة
وتدور وتدور.. مُحدِثة بهجة لأطفال حارته.
ذاكرة طفل
ينتظرُ الجميع معرفة القصة كاملة من لبنان. تمضي
الأيام ليصلنا الشهيد مُحمَّلا في صُندُوق من شجرة الأرز، ملفوفا بحب وعلم وطنه. يُكشف
الغطاء، وإذا بابتسامة على مُحياه علقتْ في ذاكرة الجميع، لا يمكن نسيانها أبدا.
ذاكرة طفل
يَعُود من المدرسة ببسمة اللقاء. تحضنه أمة بلهفة
وشوق. تُطعمه طعام الغداء. تحثُّه على اللحاق بمزرعة أبيه. يعمل بجد ونشاط حتى
حُلُول المساء. يعود إلى البيت مُتعبًا. ينظر إلى أمه وهي تطهو العشاء. يعصره
الألم لما تتحمله من مشاق. يضغط الكولة ليشعل الموقد. يصنع شاي كرك ويقدمه لأمه
وأبيه مع خبز الرخال.. تبتسمُ أمه فرحا لتعود إليه الروح من جديد.
ذاكرة طفل
يستيقظُ بنشاط قبل بزوغ الفجر. يحمل بيده زبيل خوصيا.
يلف على نخيلات مزرعته والجيران. يلتقط (يرقط) ما جادت به طوال الليل. يعود إلى
البيت مُحمَّلا بخيرات كثيرة. تستقبله أمه بحنية وفرح.. وتحثه على الاستعداد ليوم
مدرسي جديد.
ذاكرة طفل
أغرته تلك الشماريخ المستديرة المحملة بالبسر.
مرصعة وحدة فوق أخرى بانتظام. تتدلى إلى الأرض بجاذبية. تحركها الريح يمنة ويسرى.
لونها الأصفر البهيج يجذب النفس. تسلق تلك العوانة بيديه. يحضن جذعها الخشبي كمحب
وفي. لعله يحظى برطبة أو قيرينة قدمي يبشر بها والديه في أول القيظ.
ذاكرة طفل
كان الوقت ما بَعْد العصر. تأذَن الشمس على المغيب.
تقف الأم في وسط الحوش تدلل طفلها الأخير. تمرح معه بسعادة غامرة. تسمع ضحكتهما من
بعيد. تقلع كسرة تمر كبيرة مكنوزة من جراب لتطعم بها غنيماتها وشويهاتها بزريبة
بجانب البيت. يدخل عليها أخوها الأكبر بخطوات مسرعة، مُردِّدا بصوت بُكَائي شديد:
مات خليفة... مات خليفة... مات البطل.. تصرُخ الأم صرخة لم تهدأ أبدا إلى اليوم، تذكر
الطفل الصغير حكاياته البطولية في حرب ظفار.
ذاكرة طفل
يأتي الليل بحلكة الظلام. يفرش الحصير وعليه المنام والشرشرف. يبلله ببعض
الماء لتسري البرودة إلى الفراش. يعلق البشانة الخضراء على الوتد. يصب الحل التراب
في قاعدة السراج. يُشعل القنديل ليسمع حكاية المساء. يخلُد إلى الفراش ليتسامر مع
ضوء القمر ولمعان النجوم. تهبُّ الكوس والنعشي على الأجساد. تَتَساقط حبات الطل
(الندى) لتبريد الفراش. يهجع الجميع في سكون.. يصدح الديك بصوت شجي، لتدب الحياة
من جديد.
ذاكرة طفل
يَصُوم أوَّل يوم في رمضان.. كان النهار قائظا من
صيف شديد. لا مفر من لواهيبه إلا تحت ظل الشجر. يأتي المساء لينام على حافة الطوي
بوسط الحوش. تنزف الأم الماء البارد لتنضحه على الجسد المسجى. يؤذن المعلم ليفطر
الجميع على صوته. يشرب الطفل جرعة الماء الباردة من الجحلة ليدخل بعدها في عالم
آخر حتى بزوغ الفجر. يسمع صوت المسحِّر وطبله المجوف المصنُوع من جذع شريشة خضراء.
مُردِّدا: "سحور... سحور يا نائم"، فينهض الجميع لبداية صوم جديد.
ذاكرة طفل
يَستيقظ بنشاطٍ قبل بزوغ الفجر، يحملُ بيده زبيل
خوصي. يلف على نخيلات مزرعته والجيران. يلتقط (يرقط) ما جادت به طوال الليل. يعود
إلى البيت محملا بخيرات كثيرة. تستقبله أمه بحنية وفرح. تحثه على الإستعداد ليوم
مدرسي جديد.
ذاكرة طفل
تمضي الأيام ويشتدُّ عود الطفل في عمل دؤوب. لا
كهرباء حينها ولا تسلية تليفزيُون. في الصباح في مدرسة العلم، وفي المساء في
المزرعة أو في الدكان.. أعمالٌ كثيرة مارسها، ومصاعب كثير واجهها، إلا أنَّ الصبر
مفتاح الفرج دائمًا وأبدًا.
ذاكرة طفل
تتحلَّق الأسرة على المذياع. اليوم نتيجة
الإعدادية العامة. كانت حينها تُعلَن عبر وسائل الإعلام. للشهادة حينها مكانة لا
توصف. يصدح المذيع بالأسماء مدرسة تلو أخرى في عُمان. يفتح الوالد بابَ دكانه.
ويخلي محتويات الثلاجة الوحيدة في الحارة بما فيها من مرطبات. يُوزِّعها جميعًا
فرحةً بسمَاع اسم ابنِه في الإذاعة ناجحًا.
ذاكرة طفل
لا تُوجد حينها مدرسة للثانوية في الوُلاية إلا مدرسة
جابر بن زيد في الوطية. نقلة كانت بالنسبة للوالديْن، صعوبة كبيرة بعد فقد ولدهم
الأكبر قبل سنوات بسيطة، حَزِن الطفل وبكَى كثيرا، ومرض كثيرا، وعانى كثيرا لضياع
الفُرصة، إلا أنَّ رضا والديه هو قراره الأخير.. ظلَّ يخدمهمُا بطِيْب خاطر، ولكن
للمُستقبل رؤية ورسالة.
ذاكرة طفل
كَلَام أخِيه الأكبر المتوفَّى يتردَّد في ذهنه
كثيرا. تضحيات جلية قدمها من أجل الوطن. نفتخر كثيرا ببطولاته وتضحياته. دائمًا ما
يُردِّد والده أن هذا أقل شيء يُقدَّم للوطن. لم يحظَ الوالدان براتب تقاعد؛ كون
هذا النظام غير متوافر في تلك الفترة. شمَّر الطفل عن ساعديه للبحث عن عمل. كانت
حينها الفُرص مُتاحة لمن يحملون الشهادة العامة. كان النصيب بأن يعمل في مكتب
الوالي كاتبًا. نقلة كبيرة في الحياة والخوض في مشكلاتها ومُتطلباتها وتعقيداتها..
فالعملُ في البرزة بمثابة مدرسة لا تُضاهيها مدرسة تطبيقية في الإدارة اليوم.
ذاكرة طفل
لم يَنْسَ التعليم أبدا. عندما أًتيحت فُرصة التعليم
الثانوي في المساء كان أول المُلتحقين بهذا النظام؛ ففي الصباح ببرزة الوالي وفي
المساء في المدرسة. وعندما حان وقت تقديم امتحان الشهادة العامة كان بجانب الطلاب النظاميين
من زملاء مدرسته.
ذاكرة طفل
أكمَل الدبلوم ما بعد الثانوي، ثم الجامعة
والماجستير، جميعها دراسات على نفقتِه الخاصة ومعونةِ الحُكُومة. كان يقتطعَ جزءًا
من راتبه شهريًّا لأجل هذا الغرض.
ذاكرة طفل
كَيْف كان مَوْقف طفل لم يبلغ الخامسة عشرة، يُكلَّف بمهام كبيرة في عمل
مُتعدد، وجزء كبير منه يتطلَّب أن يتعامل مع ثقافات مُتعددة، وفكر مُختلف، وأعمار
مُختلفة، ومُستويات مُختلفة من الثقافة والعلم والمكانة الاجتماعية، أضف إلى ذلك المشكلات
المتنوعة والاختلافات المُتعددة بين الناس، خاصة في تلك الفترة!! إنَّها قصة مُثيرة
ومُمتعة وتحدٍّ كبير جدًّا جدًّا، بحاجة لسرد مُتقَن من أجل نقل المعرفة لجيل جديد.
سيف العاقل.. وقصته مع الزراعة
أيَّام زمان، كانتْ الخضار العُمانية المزروعة محليًّا لها طعم آخر، مقارنة بما يُؤتَى إلينا أو يُزرَع الآن. لقد أهمل الكثير من المزارعين تلك السلالة من الخضار، وتكاد تختفي في ظل منافسة الخضار المستوردة أو المهجَّنة؛ فالكل يسعى لأن تكُون الخضار ذات وزن أكبر ونضج أسرع.
مِمَّن حافظ على زراعة الأصناف المحلية بالطريقة التقليدية دُون الاعتماد على الأسمدة الكيماوية أو المبيدات الحشرية في قُريات؛ هو: سيف البوصافي، كان يصفُونه بالمجنون، وهو في الحقيقة أعقل العقلاء وأنبل النبلاء.
ابتلَاه الله بمرضٍ نفسيٍّ يَرْجِع لقصة إنسانية تستحقُّ أن تُكتب، إلا أنَّه كان شامخًا، مُعتزا بنفسه، مُعتمدا على يده، تراه يكِد الليل والنهار في مزرعته لتوفير لقمة العيش له دُون الاتكال أو الامتنان لأحد.
كَان يَزْرَع جميع أنواع الخضار المحلية بطريقة تقليدية في مزرعته بعفا، وما إن تستوي وتنضُج حتى يحملها على ظهره لمسافة لأكثر من ثلاثة كيلومترات؛ لتوصيلها إلى السوق القديم؛ من أجل تسويقها على مرتادي السوق صباحًا، وفي المساء أيضًا.
يَزهو السوق بوجوده؛ فقفشاته وكلامه ومرحه وذكرياته لها طعم للمستمع؛ فهو يتكلم بتلقائية بسيطة جدًّا دُون اصطناع، تجد ما في قلبه على لسانه، لا يفتري على أحد، ويتعامل مع الناس باحترام وتقدير وأدب، وهكذا يتعامل معه الناس أيضا.
يَعْرِض مُنتجاته على الأرض والجونية المحملة بالخيرات بجانبه، يتحلق عليه الجميع بمرح لمعاينة المُنتجات والشراء، وهو أيضًا له طريقة فريدة في عرض مُنتجاته، وكذلك في إقناع زبونه؛ لهذا تجد الكثير يبتاع ما يقدمه لهم من خضار طازجة.
وفي المساء، وفي طريقه إلى منزله، تجده يمرُّ على المحلات، ويستوقف المارين وعلى كتفه جونية سوتلي لبَيْع ما تبقَّى من مُنتجات.. تُريد جزرا عُمانيا، تريد جلجلان، تريد بصلا محليا، تريد خيارا، تريد كزبرة، تريد فندال، تريد شلغم، تريد فجلا، تريد جرجيرا، تريد وعا، تريد بقدونس، تريد أي شيء من الخضار المحلية تجدها عنده، والغريب أنه يبيع بالعدد، أو القبضة، أو الربطة، وأسعارُه بسيطة لا مُبَالغة فيها، كان قنوعا جدا بالقليل.
ومن لطائفه -رحمه الله- دخل ذات يوم إلى مجلس عزاء، وكأنه شعر بتقصير وعدم تقديره ممن كان في المجلس، عند مصافحته لهم مقارنة بغيره، فخرج وفي خاطره شيء، وفي طريقه لقي ضيوفا يسألون عن مكان العزاء، فقال لهم: «إذا سألتم عن مكان عزاء النساء ففي ذلك المجلس»، وعندما علم أصحاب العزاء بالموقف أدركوا حينها تقصيرهم في حقه، فبادروا بالاعتذار وعدم التكرار.
إذا جلست مع تلك الشخصية، تَسْمع الحِكم ومواعظ التاريخ، وصدق فعلا من قال: "خُذ الحكمة من أفواه المجانين"؛ فهو حافظ ومُدرك للكثير من الأمور والأحداث، وعلى الرغم من ظرُوفه فهو لا يفارق المسجد، يُؤدي ما عليه وفقا لإدراكه وقدراته وإمكاناته الذهنية والنفسية، كان شخصية عملية جدًّا لا يمل ولا يتعب.
وكَان أيضًا من الناس المُقدَّرين من قبل الشيخ اللزامي -رحمه الله- فبحُكم جِيرته تجدُه من مرتادي مجلسه، فكان يستمع إليه بكل احترام ومحبة وعطف ورحمة.
مُنذ سنوات، ماتَ سيف المجنون -كما يُسمونه- بصَمَت، مات دُون ضجة أو إعلام، إلا أنَّه ترك مكانا في نفوس أهل قريته، بل لدى المتسوقين لتلك الخضار الطبيعية الصحية، التي لم تُلَامسها يد غريبة، أو تُسْقى بمبيد قاتل، أو تُغذَّي بسماد كيماوي مؤذٍ.
غاب سيف البوصافي، وغابت معه الكثير من الذائقة الزراعية القديمة.. رَحِمك الله يا سيف العاقل في زمن تتزاحم فيه اليوم آراء المجانين والعقلاء.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي
إنّه الوقت
تَمعَّنت في إنجاز الحضارات، فوجدتُ ما من حضارة
ارتقت إلا بسبب توفيق الله، ثم احترام أهلها للعلم والنظام ولقيمة الوقت وإدارته
بطريقة صحيحة، وعندما تأخَّر المسلمون عن هذا التوجه كان سببا في تأخرهم.
يقول بيتر دراكر، الأب الروحي للإدارة -كما يلقبه
عُلماء الإدارة المُعاصرة: "إن الوقت هو أندر الموارد، إذا لم تتمكن من
إدارته، فلن تتمكن من إدارة أي شيء آخر.
قِيْمَة فكرية وعملية مُهمة للحياة، أصبحت من أساسيات
تحقيق النجاح وجودة الأداء والتميز في الأعمال.
الدين الإسلامي أكد على هذا المبدأ ضمن قيمه الإنسانية
مُنذ قرون طويلة، وحث على استغلال الوقت، لكون الوقت عنصر مهم في حياة الإنسان،
فهو يُشكل أعمار الناس ورأس مالهم، وأساس تطورهم وتقدمهم الحضاري والمعرفي
والتكنُولُوجي.
وهو أحد العناصر في مشوار حياة الإنسان في عمارة
الدنيا والآخرة، والوقت هو القيمة الوحيدة في حياة الإنسان إذا مضى لا يرجع أبدا،
بل الإنسان مسئول أيضًا عن هذا الوقت ومحاسب عليه، حيث يسأل عن عمره فيما أفناه،
كما جاء في الحديث الشريف، والعمر هو عبارة عن وقت استمرار الحياة.
ولأهمية الوقت فقد أقسم الله بالوقت في كتابه
العزيز، وفي مواضع عدة لعظيم أهميته وخطورته. فأقسم الله عز وجل بالليل، وأقسم
بالضحى، وأقسم بالفجر، وأقسم بليال عشر، وأقسم بالعصر، وهي أوقات في اليوم
والليلة. والله لا يقسم إلا بعظيم.
ويُؤكد عليه الصلاة والسلام على ذلك أيضًا بقوله:
إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها.
متعنا الله وإياكم بكل أوقاتنا فيما فيه الخير
والسعادة، وحفظكم دوما من كل مكروه.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)