أيَّام زمان، كانتْ الخضار العُمانية المزروعة محليًّا لها طعم آخر، مقارنة بما يُؤتَى إلينا أو يُزرَع الآن. لقد أهمل الكثير من المزارعين تلك السلالة من الخضار، وتكاد تختفي في ظل منافسة الخضار المستوردة أو المهجَّنة؛ فالكل يسعى لأن تكُون الخضار ذات وزن أكبر ونضج أسرع.
مِمَّن حافظ على زراعة الأصناف المحلية بالطريقة التقليدية دُون الاعتماد على الأسمدة الكيماوية أو المبيدات الحشرية في قُريات؛ هو: سيف البوصافي، كان يصفُونه بالمجنون، وهو في الحقيقة أعقل العقلاء وأنبل النبلاء.
ابتلَاه الله بمرضٍ نفسيٍّ يَرْجِع لقصة إنسانية تستحقُّ أن تُكتب، إلا أنَّه كان شامخًا، مُعتزا بنفسه، مُعتمدا على يده، تراه يكِد الليل والنهار في مزرعته لتوفير لقمة العيش له دُون الاتكال أو الامتنان لأحد.
كَان يَزْرَع جميع أنواع الخضار المحلية بطريقة تقليدية في مزرعته بعفا، وما إن تستوي وتنضُج حتى يحملها على ظهره لمسافة لأكثر من ثلاثة كيلومترات؛ لتوصيلها إلى السوق القديم؛ من أجل تسويقها على مرتادي السوق صباحًا، وفي المساء أيضًا.
يَزهو السوق بوجوده؛ فقفشاته وكلامه ومرحه وذكرياته لها طعم للمستمع؛ فهو يتكلم بتلقائية بسيطة جدًّا دُون اصطناع، تجد ما في قلبه على لسانه، لا يفتري على أحد، ويتعامل مع الناس باحترام وتقدير وأدب، وهكذا يتعامل معه الناس أيضا.
يَعْرِض مُنتجاته على الأرض والجونية المحملة بالخيرات بجانبه، يتحلق عليه الجميع بمرح لمعاينة المُنتجات والشراء، وهو أيضًا له طريقة فريدة في عرض مُنتجاته، وكذلك في إقناع زبونه؛ لهذا تجد الكثير يبتاع ما يقدمه لهم من خضار طازجة.
وفي المساء، وفي طريقه إلى منزله، تجده يمرُّ على المحلات، ويستوقف المارين وعلى كتفه جونية سوتلي لبَيْع ما تبقَّى من مُنتجات.. تُريد جزرا عُمانيا، تريد جلجلان، تريد بصلا محليا، تريد خيارا، تريد كزبرة، تريد فندال، تريد شلغم، تريد فجلا، تريد جرجيرا، تريد وعا، تريد بقدونس، تريد أي شيء من الخضار المحلية تجدها عنده، والغريب أنه يبيع بالعدد، أو القبضة، أو الربطة، وأسعارُه بسيطة لا مُبَالغة فيها، كان قنوعا جدا بالقليل.
ومن لطائفه -رحمه الله- دخل ذات يوم إلى مجلس عزاء، وكأنه شعر بتقصير وعدم تقديره ممن كان في المجلس، عند مصافحته لهم مقارنة بغيره، فخرج وفي خاطره شيء، وفي طريقه لقي ضيوفا يسألون عن مكان العزاء، فقال لهم: «إذا سألتم عن مكان عزاء النساء ففي ذلك المجلس»، وعندما علم أصحاب العزاء بالموقف أدركوا حينها تقصيرهم في حقه، فبادروا بالاعتذار وعدم التكرار.
إذا جلست مع تلك الشخصية، تَسْمع الحِكم ومواعظ التاريخ، وصدق فعلا من قال: "خُذ الحكمة من أفواه المجانين"؛ فهو حافظ ومُدرك للكثير من الأمور والأحداث، وعلى الرغم من ظرُوفه فهو لا يفارق المسجد، يُؤدي ما عليه وفقا لإدراكه وقدراته وإمكاناته الذهنية والنفسية، كان شخصية عملية جدًّا لا يمل ولا يتعب.
وكَان أيضًا من الناس المُقدَّرين من قبل الشيخ اللزامي -رحمه الله- فبحُكم جِيرته تجدُه من مرتادي مجلسه، فكان يستمع إليه بكل احترام ومحبة وعطف ورحمة.
مُنذ سنوات، ماتَ سيف المجنون -كما يُسمونه- بصَمَت، مات دُون ضجة أو إعلام، إلا أنَّه ترك مكانا في نفوس أهل قريته، بل لدى المتسوقين لتلك الخضار الطبيعية الصحية، التي لم تُلَامسها يد غريبة، أو تُسْقى بمبيد قاتل، أو تُغذَّي بسماد كيماوي مؤذٍ.
غاب سيف البوصافي، وغابت معه الكثير من الذائقة الزراعية القديمة.. رَحِمك الله يا سيف العاقل في زمن تتزاحم فيه اليوم آراء المجانين والعقلاء.
كتبه/ صالح بن سليمان الفارسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.