في بداية الألفية الثانية، درستُ ضمن مُتطلبات
مرحلة الماجستير مادة اسمها "الاستثمار المُتقدم"، على يد الأستاذ
الكبير الدكتُور منير إبراهيم هندي أحد كبار عُلماء الإدارة والاقتصاد في جمهورية
مصر العربية، وله سُمعة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان كثيرة. كانت دُفعتنا
تضمُّ مجمُوعة كبيرة من الأخوة العرب، خاصة من دُول الخليج العربي وليبيا ومصر..
وغيرها.
الدكتُور -حفظه اللهُ- اتَّصف بالشدة والغلظة في
تعامله مع الطلاب، وذلك من باب الجدية في إيصال المعرفة؛ لهذا تجد جميع الطلاب
حاضرين قبل بدء المُحاضرة بربع ساعة أو أكثر؛ فمن المستحيل دُخُول المُحاضرة بعد دُخُوله.
كانتْ له نظريات في الاستثمار والفكر الحديث في
الهندسة المالية باستخدام التوريق والمشتقات، وله في ذلك مجلدات عديدة، تناولت
مُختلف جوانب الإدارة والاستثمار، وكثيرٌ من نظرياته خاصة بما يتعلق بالرهن العقاري،
والتي رأيتُ أنَّ بلدي يُمكن الاستفادة منها، فلخصتها بعد عودتي، وقدمتها لعدد من
المسؤولين.
الكثيرُ من الطلاب يتحاشُون الصدام معه، أو مُخالفة
توجهاته في فترة إلقاء محاضراته. يُحكى لنا أنَّ طالبة مصرية تعثَّرت معه في مادة،
وقد أصرَّ على ترسيبها رغم مكانتها الاجتماعية، بل قِيل لنا إنَّ عمرو موسى أمين
عام جامعة الدول العربية في ذلك الوقت، كلمه في أحد الطلاب، ولم يُلبي رغبته، حتى إنَّه
ألزم أحد الطلاب الخليجيين بحضور جميع مُحاضراته من بلده في الخليج أسبوعيًّا،
ولأكثر من أربعة أشهر، بعد أن انتهتْ بعثته، حتى تمكَّن إنهاء مادته لينهي
مُتطلبات تخرجه.
في يوم، أتى بنا لمُحاضرة في يوم الجمعة، وما إن
دخل الفصل وجَّه الجميع للاستعداد لاختبار نهاية الفصل في يوم حدَّده؛ حيث يقضي
نظام الكلية أن الدكتُور لديه حُرية تحديد موعد الامتحانات. في ذلك اليوم الذي حدَّده
صادف وُجُود اختبار لمادة أخرى؛ لهذا فقد استاء الجميع من هذا الموعد، وقام كل
واحد يقدم الآخر للتحدث مع الدكتُور لإمكانية إقناعه بتأجيل موعد الاختبار. كانتْ
له هَيْبة غير عادية، وفي النهاية أجمع الجميع على ترشيحي للتحدث معه باسم جميع الطلاب.
على الرغم من أنَّ جميع الطلاب العُمانيين كانوا مُستعدين
ومُتقبِّلين لموعد الدكتُور، إلا أنَّه ونزولا عند رغبة الجميع تضامنًا معهم،
وقبلتُ تفويضهم للتحدث مع الدكتُور. استأذنت الدكتُور للتحدُّث معه، وبكل أدب واحترام
طرحت فكرة الزملاء وطلبهم، وما إن سمع كلمة تأجيل الامتحان لفترة لاحقة، وإلا
بالدكتُور ينهال علينا بالكلام غضبًا، وعباراته كلها توحِي بعدم اكتراثنا لأهمية
العلم.
الجميع لَزم الصمت، ولم يتحدَّث واحد منهم لدعم مَوْقِفي،
بقيتُ أيضًا أنا صامتا أستمع للدكتور وهو ينهال علينا جميعًا بالكلام، وكل كلامه
على حقِّ على الرغم من جراحته، قُلت في خاطري: أكيد ستكون العاقبة وخيمة من هذا
الكلام، وبدأ يَشْرَح ويشرح ويشرح، تفاعلنا معه بكل احترام وتقدير.
ارتَفَع صَوْت أذان الجمعة، الكلُّ ينهس أو يَهْمِس
للثاني لتنبيه الدكتُور بموعد صلاة الجمعة، إلا أنَّه لم يُعجز واحد منهم التحدث
معه، وأخذ يشرح ويشرح ويسأل. فجأة، انتابتْ الدكتُور شكعة أو شكة في صدره، وما إنَّ
أحس بهذا الألم، تفوَّه بكلمة طيبة، بقوله: "أكيد هذا التنبيه لأجل موعد
الصلاة"، أمرنا بالذهاب للصلاة، إلا أنه اشترط ما إن تنتهي الصلاة، يجب على
الجميع التواجد في الفصل لتكملة المُحاضرة.
أثناء خروجنا من الفصل، وأثناء صُعودنا في المصعد،
سألني الدكتُور: من أين أنت يا ابني؟ قلت له: من عُمان. وما إن سمع كلمة عُمان، حتى
ابتهجتْ سريرته وأشرق وجهُه، وأخذ يُثنِي على عُمان وأهلها المحترمين، وقال لي: "تقديرا
لك، سأوافق على تأجيل الامتحان إلى أيِّ وقت تتفقون عليه"، وما إن سمع
الزملاء هذه الكلمة، وإلا والفرح يعم الجميع.
حَفِظ الله الدكتُور منير هندي، وجَزَاه الله خيرَ
الجزاء، فقد كان نِعْم المعلم في احترام قيمة العلم والوقت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.